مقالات وآراء

د. عدنان منصور يكتب : العالم بين الأحادية القطبية وتعدّد الأقطاب: الواقع والحلم !

بعد انتهاء الحرب العالمية الثانية عام 1945، ظهر على الساحة الدولية قطبان كبيران تقاسما العالم. قطب رأسمالي معزز بحلف شمالي الأطلسي تقوده الولايات المتحدة، وقطب شيوعي محصّن بحلف وارسو يقوده الاتحاد السوفياتي…
نتج عن القطبين بشكل عام، توازن دولي استطاع أن يتجاوز أزمات متفجرة شكلت تهديداً للمصالح الأمنية والاستراتيجية للقطبين، وللأمن والسلام العالمي.

هذا التوازن السياسي ظهر في أكثر من منطقة في العالم أبرزها:
ـ حرب كوريا عام 1950، إثر اجتياح القوات الكورية الشمالية أراضي كوريا الجنوبية.
ـ العدوان الثلاثي (بريطانيا وفرنسا و”إسرائيل”) على مصر عام 1956 بعد تأميم قناة السويس.
ـ حصار الولايات المتحدة لكوبا عام 1963 بعد نشر الاتحاد السوفياتي بطاريات صواريخ على أرضها، والتي رأت فيها أميركا تهديداً مباشراً لأمنها القومي.

استمرّ التوازن السياسي والعسكري بين القطبين في العالم، رغم التنافس الشديد بينهما، وتطلعهما إلى مناطق نفوذ جديدة، ودعمهما للأنظمة الموالية لهما.
عالم القطبين استمرّ حتى نهاية عام 1991، حين شهد العالم زلزالاً سياسياً واستراتيجياً نتيجة تفكك الاتحاد السوفياتي، وانهيار المنظومة الشيوعية وحلفهما العسكري في أوروبا، ما نتج عنه واقع أميركي جديد فرض نفسه على الساحة العالمية.

بعد تحوّل روسيا الى اقتصاد السوق، وما تبعه من انهيار اقتصادي، جعل روسيا التي كانت قلب الاتحاد السوفياتي، دولة من دول العالم الثالث، ليبقى فقط في الميدان الدولي مع مطلع عام 1992 أميركا التي ستغتنم الفرصة الذهبية لملء الفراغ الكبير، الذي عبّر عنه زبغنيو بريجنسكي مستشار الأمن القومي الأسبق بقوله: “إنّ أفول نجم الاتحاد السوفياتي معناه تفرّد الولايات المتحدة بمركز الدولة العظمى ذات المسؤولية العالمية”!

بعد أيام من سقوط الاتحاد السوفياتي، وفي وثيقته للكونغرس الأميركي في شهر كانون الثاني/ يناير 1992، قال الرئيس جورج بوش: “ستبقى الولايات المتحدة الدولة الوحيدة، ذات القوة الحقيقية، والنفوذ الكبير في مختلف الأبعاد السياسية والاقتصادية والعسكرية، رغم ظهور مراكز قوى جديدة.”

أما الرئيس ريتشارد نيكسون في كتابه: “انتهزوا الفرصة” عام 1992 قال: “إنّ زعامة أميركا للعالم لن يكون عنها بديل طيلة العقود المقبلة. الولايات المتحدة هي الدولة الوحيدة التي تمتلك من القوة الاقتصادية، والعسكرية، والسياسية، ما يجعلها تقف في ذروة قوتها الجيوبوليتيكية، وإذا ما انحسر وضعها ومكانتها كقوة عظمى وحيدة، فهذا سينتج عن الاختيار وليس بالضرورة، وأنّ لدينا فرصة تاريخية لتغيير العالم!”.

رغم أنّ العالم اليوم يشهد مرحلة مخاض انتقالية من الأحادية إلى التعددية القطبية، إلا أننا حتى الآن، لا نعيش في عالم متعدد الأقطاب بشكل مستمر وفعلي، وإنْ كانت الهيمنة الأميركية، تراجعت قليلاً ولم تعد مطلقة كما كانت في التسعينيات، وفي العقد الأول من القرن الحادي والعشرين.
إذ مع بداية هذا القرن بدأ الوضع يتغيّر مع صعود الصين كقوة بشرية، واقتصادية وتكنولوجية وعسكرية كبرى، وكذلك عودة روسيا كفاعل عسكري استراتيجي ترجم على الأرض في جورجيا عام 2008، (أفخازيا وأوسيتيا)، وفي القرم عام 2014، وأوكرانيا عام 2022، أضف الى ذلك بروز قوى إقليمية فاعلة، يتعاظم دورها كالهند، وتركيا، وإيران، والسعودية، والبرازيل، مع تراجع محدود في قدرة واشنطن على فرض إرادتها عالمياً، كما فعلت سابقاً في العراق، وكوسوفو ويوغوسلافيا السابقة.

رغم المتغيّرات الدولية، تبقى أميركا، المحرك المركزي للنظام الدولي في مجالات عديدة، إذ لا تزال تمتلك أكبر قوة عسكرية عالمية، وأوسع شبكة قواعد في كلّ القارات، ونفوذ مالي ونقدي، إذ لا يزال الدولار يهيمن في مجال التجارة والنشاطات النقدية العالمية، وهي الأولى في مجال التكنولوجيا والابتكارات، والذكاء الاصطناعيّ، والتقنيات الحساسة.

في جانب آخر، تشكل الولايات المتحدة كتلة ضخمة من التحالفات التي تدور في فلكها، وأبرزها: ـ حلف شمالي الأطلسي (الناتو)، اليابان. كوريا الجنوبية، أستراليا، والاتحاد الأوروبي. هذه التحالفات تجعل أميركا اللاعب الذي يحدّد إيقاع اللعبة الدولية.

مقابل المحور الأميركي ـ الغربي، برز على الساحة العالمية محور صيني روسي أو (اوراسي)، كذلك محور “جنوب عالمي” أكثر براغماتية، يشمل الهند، البرازيل، جنوب أفريقيا، والسعودية، إلا أنّ دول هذا المحور ليست متحالفة بشكل متين، لأنّ مصالحها تتنافس وتتقاطع، دون أن تشكل نظاماً بديلاً متماسكاً بالكامل، ما يطلق يد أميركا في اتخاذ المبادرات، والقرارات الأحاديّة في المسائل الحساسة، كفرض العقوبات، والنظام المالي، والإجراءات العسكرية، خارج إطار التفاوض، والقوانين الدولية.

إذا أخذنا بالاعتبار مواقع القوة، والتأثير للثلاثي العالمي، الولايات المتحدة والصين وروسيا، نجد أنّ أميركا لا تزال القطب الأقوى لجهة الثروة، والمال والتكنولوجيا، والقوة العسكرية، والتحالفات.
أما الصين فهي القطب الصاعد والمنافس الفعلي لأميركا، خاصة في مجال الاقتصاد، والصناعة، والذكاء الاصطناعي، والتجارة والبنى التحتية.
أما روسيا، فهي بحاجة إلى الوقت كي تصبح قوة عالمية عظمى شاملة، وإنْ تمتلك قوة عسكرية هائلة، وثروات طبيعية ضخمة وأوراق تعطيل مؤثرة في النظام الدولي.

بين القوى الإقليمية الصاعدة كالهند والسعودية والبرازيل وإيران وتركيا… تأتي الهند في الطليعة، إذ يُعتبر اقتصادها من أسرع الاقتصادات نمواً، بالإضافة الى امتلاكها جيشاً ضخماً، وقوة عسكرية ونووية كبيرة، وهي المرشح الأقوى لتصبح قطباً عالمياً ثالثاً بعد الولايات المتحدة والصين، بامتلاكها سوقاً ضخمة، وقدرات نووية، واستقلالية سياسية.
أما السعودية والبرازيل فتشكلان قوة اقتصادية ضمن العشرين الكبار، لكنهما أقل قدرة عسكرية مستقلة. والبرازيل لها دور فاعل في أميركا اللاتينية، والسعودية تضطلع بدور قيادي متنام في العالمين العربي والإسلامي.
أما تركيا، فتقوم بدور إقليمي بارز، وبنشاط سياسي وعسكري في الشرق الأوسط، وتنخرط في الأزمات الميدانية التي تشهدها أكثر من دولة فيه.
أما إيران، فإنها تتحوّل من دولة محاصرة، الى لاعب لا يُستهان به، أو تجاهله في عالم التعددية القطبية، بعد أن وضعت نفسها خارج فلك المنظومة الغربية، وبنت لها مراكز نفوذ مع شبكات تحالفات إقليمية (محور المقاومة)، وطوّرت قدراتها العسكرية والصاروخية المستقلة، ونسجت مع بكين وموسكو علاقات دبلوماسية واقعية.

مع تراجع حدة الهيمنة الأميركية، أصبحت إيران أكثر حرية داخل فضاء عالمي، لم يعد يخضع لقرار أحادي من واشنطن، بعد انضمامها رسمياً إلى تكتلات جديدة، مثل منظمة شنغهاي للتعاون، ومجموعة بريكس عام 2023، وتوقيع اتفاقية تعاون استراتيجي مع الصين لـ 25 عاماً، ودخولها في شراكة عسكرية واقتصادية مع روسيا.
تموضع إيران، جعلها ركناً أساسياً في المعسكر الأوراسي ـ الآسيوي الذي يوازن النفوذ الغربي، حيث تمتلك ثروات طاقوية، وبرنامجاً صاروخياً متطوراً، بالإضافة إلى تواجد بحري متزايد في الخليج، وبحر العرب، والبحر الأحمر، ما يجعلها لاعباً مهماً وأساسياً في أيّ مشكلة أو معادلة أمنية شرق أوسطية أو دولية.

وجود إيران في موقع جغرافي استراتيجي بين آسيا الوسطى والخليج يجعلها ممراً حيوياً لطريق الحرير الصيني (الحزام والطريق).
لكن ما يكبّل اقتصاد إيران، هو العقوبات المفروضة عليها، والتي تحدّ من قدراتها كي تصبح قطباً اقتصادياً مستقلاً، إلا أنّ استقلاليّة قرارها يعزّز صورتها في العالم كدولة ذات سيادة حقيقيّة وسط تبعيّة إقليمية.

إنّ إيران ليست قطباً عالمياً بالمعنى الكامل، إلا أنّها قوة ممانعة وموازنة، تسير مع حلفائها في كسر الأحادية الأميركيّة، وتثبيت التعددية الجيوسياسية. إنها قطب إقليمي مقاوم في محور آسيا، ولاعب مهمّ في شرق أوسط ما بعد الأحادية القطبية.

إذا كان العالم اليوم، لم يعُد نسبياً تحت إدارة قطب واحد، نظراً لوجود قوى كبرى دولية وإقليمية، تتعاون وتتنافس في الوقت نفسه، إلا أنه لا يمكن القول إنّ النظام الدولي الحالي، نظام متوازن، متعدد الأقطاب، وبقرارات مستقلة تماماً، طالما انّ الولايات المتحدة لا تزال القطب الأكبر، الذي يهيمن على العالم بشكل كبير، واللاعب الأقوى في اتخاذ القرارات الحاسمة، والعقوبات الأحادية دون ضوابط، وفرضها على دول العالم، وإكراهها على الالتزام بها، غير عابئة بالقوانين الأممية ولا بالمجتمع الدولي، و”أقطابه”، دون أن يجرؤ أحد من “الأقطاب” باستثناء الصين، على الوقوف في وجهها، أو وضعها عند حدّها!

عالم متعدد الأقطاب كي يكتمل، بحاجة إلى المزيد من الوقت…!

المزيد

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى