
تُعدّ الاحتفالات الوطنية الضخمة ظاهرةً ملازمة للأنظمة السياسية عبر التاريخ؛ فهي ليست مجرد فعاليات ثقافية أو فنية، بل أدوات رمزية لتثبيت الشرعية وإعادة إنتاج صورة الدولة في الداخل والخارج.
لكن حين تتجاوز هذه الاحتفالات حدود “الرمزية الموحِّدة” إلى “الاستعراض المبالَغ فيه”، تتحول إلى مرآة تكشف الفجوة بين السلطة والمجتمع.
ومن هنا، يتجدد السؤال التاريخي: هل يمكن أن يكون البذخ في الاحتفالات مؤشرًا على ضعف داخلي؟ وهل يمكن أن تتكرر تجربة الشاه الإيراني أو غيره في سياقات معاصرة مثل مصر اليوم؟
في عام 1971، نظّم شاه إيران محمد رضا بهلوي احتفالية أسطورية بمناسبة مرور 2500 عام على الإمبراطورية الفارسية، بلغت كلفتها أكثر من 100 مليون دولار (آنذاك)، في وقتٍ كانت فيه مناطق ريفية واسعة من إيران تعاني الفقر والتهميش.
كان هدف الاحتفال إظهار إيران بوصفها وريثة الحضارة الكبرى وقوةً صاعدةً على المسرح الدولي، إلا أن النتيجة جاءت عكسية: رأى الشعب في الحدث رمزًا للفجور الطبقي والانفصال عن الواقع، فازداد الغضب الاجتماعي والديني، وأصبحت الاحتفالية إحدى العلامات الفارقة في سقوط النظام بعد سنوات قليلة.
لقد أظهر التاريخ أن المبالغة في تجميل الصورة الخارجية غالبًا ما تُخفي هشاشة البنية الداخلية.
في أكتوبر 1981، نظّم الرئيس المصري أنور السادات عرضًا عسكريًا للاحتفال بذكرى النصر. أراد السادات أن يؤكد استمرار القوة والسيادة بعد اتفاقية السلام مع إسرائيل، لكن الحدث تحوّل إلى نقطة النهاية الدرامية لحكمه، حين اغتيل وسط جيشه في مشهدٍ عكس هشاشة النظام رغم المظاهر الرسمية القوية.
تُظهر هذه الحادثة أن الاحتفال بالإنجاز حين ينفصل عن إدراك المجتمع لمآلاته السياسية والاقتصادية، قد يتحول من رمز قوة إلى لحظة سقوط.
اليوم، تستعد مصر لاحتفالية ضخمة بافتتاح المتحف المصري الكبير، المشروع الأثري والثقافي الأكبر في تاريخها الحديث. لا شك أن المتحف إنجاز حضاري متميّز، سيُعيد لمصر موقعها العالمي في السياحة والثقافة، لكن سياق الاحتفال هو ما يثير التساؤلات.
فبينما تُنفق الدولة مليارات على تجهيز الافتتاح والعروض العالمية المصاحبة له، يعيش المواطن المصري أزمات اقتصادية خانقة: تضخّم مرتفع، تراجع في قيمة الجنيه، وارتفاع الأسعار.
هذا التناقض بين رمزية الرفاه الثقافي وصعوبة العيش اليومي يعيد إلى الأذهان سؤال الشاه: هل الاحتفالات الكبرى تعزز شرعية الدولة أم تكشف المسافة بين السلطة والشعب؟
الاحتفالات ليست خطيئة سياسية بحد ذاتها، بل تعبير عن طموح الدولة إلى توحيد الرموز الوطنية.
لكن الخطأ يكمن في تحويلها إلى مشهد استعراضي منفصل عن الوجدان الشعبي، حيث يُطلَب من المواطن أن يصفّق بينما لا يشعر بأن حياته تتحسّن.
فالمجتمعات لا تقاس بعدد الأضواء والكاميرات، بل بمدى المشاركة، والعدالة، والكرامة التي يشعر بها الناس في تفاصيل يومهم. إن الاحتفال الحقيقي الذي يُحصّن النظام هو الذي يتزامن مع إصلاح اقتصادي وعدالة اجتماعية ومصارحة سياسية، لا مع خطاب التمجيد والتلميع.
ختاما: يمكن القول ان من احتفالات الشاه في برسبوليس إلى احتفالات المتحف المصري الكبير، يظل السؤال واحدًا:
هل تبني الأنظمة قوتها عبر الرموز أم عبر الثقة الشعبية؟
إن التاريخ يُظهر بوضوح أن الأنظمة التي تراهن على الصورة بدل الجوهر قد تنال لحظة مجدٍ قصيرة أمام الكاميرات، لكنها تخسر على المدى البعيد حين يكتشف الشعب أن المجد الحقيقي لا يُقاس بعدد الأضواء بل بمدى شعوره بالعدالة والكرامة والمشاركة في صناعة تاريخه.







