مقالات وآراء

د. أيمن نور يكتب : أم نجيب ساويرس

في لحظةٍ من الاعتزاز والثّناء، أعلنت الجامعة البريطانية في مصر منحها الدكتوراه الفخرية للسيدة الفاضلة يسريه لوزا ساويرس، والدة المهندسين الكرام نجيب، سميح، وناصف ساويرس، تقديرًا لدورها الرائد في مجال التنمية البشرية والعمل الاجتماعي الإنساني.
لم يكن ذلك تكريمًا لسيدةٍ فحسب، بل إشادةً بمسيرةٍ ممتدةٍ من العطاء والنُبل، بل إن الجامعة هي التي تشرفت بها، لا العكس.

تعرفتُ إلى السيدة يسريه لوزا عن قربٍ في برلمان عام 1995، حيث جمعتنا زمالةٌ إنسانيةٌ ووطنيةٌ في قاعةٍ كانت تضجُّ بالحوار والاختلاف.
كانت من بين العشر شخصيات اللواتي عيَّنهن رئيس الجمهورية آنذاك، لكنها خالفت المألوف.
فبينما اكتفى كثيرون بالمقاعد، كانت هي تتحرك وتتكلم وتُؤثِّر.
كانت صوتًا لا يُشترى، وضميرًا حيًّا في زمنٍ كان الصمت فيه أيسر من الكلام.

في تلك الدورة، لمعت نجمة يسريه لوزا كواحدةٍ من أكثر النواب حضورًا وتأثيرًا، ليس فقط تحت قبة البرلمان المصري، بل في المحافل البرلمانية الدولية.
أذكر يوم 7 يناير 1996، حين انعقد مؤتمر البرلمان الدولي في بروكسل، وقد كانت تمثّل لجنة المرأة في البرلمان المصري.
صادف ذلك احتفالات عيد الميلاد المجيد، فاتصلت بي قائلة:
“لن أستطيع حضور اليوم الأول في اجتماعات لجنة المرأة، فهل يمكنك أن تحضر مكاني حتى ألحق بكم غدًا بعد العيد؟”

لم أتردد لحظة. دخلتُ القاعة المخصصة لاجتماعات لجنة المرأة، فوجدتني وحيدًا بين ثلاثمائة سيدة من برلمانيات العالم.
كانت النظرات من حولي مزيجًا من الدهشة والابتسامة، حتى تدخلت السيدة نجمة، رئيسة البرلمان الهندي، ورحبت بي ودعتني للحديث فورًا لكسر جليد الموقف.
ومنذ تلك اللحظة أدركتُ أني لا أمثل نفسي فقط، بل أمثل مصر التي اختارت أن تُبعث فيها روح يسريه لوزا في غيابي المؤقت عنها.

خلال خمس دوراتٍ برلمانيةٍ لاحقة، ازدادت معرفتي بهذه السيدة النبيلة.
ربما لم أكن أعرف وقتها أبناءها المهندسين الكبار، حتى دعتني إلى عشاءٍ في منزلها المطلّ على كورنيش النيل بجوار البنك الأهلي المصري.
هناك، في أجواءٍ تجمع بين الدفء الإنساني والرقي الاجتماعي، التقيت لأول مرة بعائلة ساويرس الكريمة، فعرفت أن الرقي ليس بالمال وحده، بل بما يُغرس في النفوس من قيمٍ وإنسانيةٍ واعتدال.

لم تقتصر لقاءاتنا على البرلمان، بل امتدت إلى مساحاتٍ عامةٍ أخرى، خاصةً في محافظة القاهرة، حين كنا نصطدم –بما يشبه الشرف السياسي– مع المحافظ الراحل عبد الرحيم شحاتة.
كانت يسريه لوزا، الصعيدية الصلبة، لا تخشى مواجهة السلطة، ولا تخفض صوتها إذا تعلق الأمر بحق الناس وكرامتهم.

كانت دائرتها الانتخابية في منشية ناصر تضم تجمعاتٍ كبيرة من جامعي القمامة والعمال البسطاء.
لم تعتبرهم مجرد ناخبين، بل أهلًا وناسًا وأمانة.
سعت لتطوير منطقتهم حضاريًا وإنسانيًا، مؤمنةً بأن العمل الاجتماعي ليس تبرعًا، بل واجبًا وطنيًا.

على الصعيد الإنساني، كانت يسريه لوزا تذكّرني دائمًا بوجه أمي –رحمها الله–، أستاذة الأدب الفرنسي، في رقتها ولباقتها وليبراليتها الفكرية.
كانت نموذجًا للمرأة المصرية التي جمعت بين الأصالة والتمدن، بين العراقة والعقل، بين النقاء والشجاعة.

أذكر لقاءً جمعنا بحضور سوزان مبارك والدكتور محمود عبد العزيز، رئيس البنك الأهلي المصري آنذاك، أثناء افتتاح أحد مشروعات تطوير منشية ناصر.
لفتني بشدة كيف تحدثت يسريه لوزا مع سوزان مبارك بندّيةٍ راقيةٍ واحترامٍ متبادل، دون تملقٍ أو خضوع.
كانت امرأةً تعرف قيمة نفسها، وتُدرك أن الاحترام يُنتزع بالمواقف لا بالمناصب.

كانت مصريةَ الهوى، صعيديةَ القلب، أوروبيةَ الملامح، ليبراليةَ الروح.
في كل موقفٍ كانت تُثبت أن الصدق قوة، وأن النقاء صلابة، وأن الحق لا يحتاج إلى صوتٍ مرتفع ليُسمع، بل إلى نيةٍ صافيةٍ تُصدّق القول بالفعل.

اليوم، وأنا أرى اسمها مكرمًا على منبر الجامعة البريطانية، أشعر أن هذا التكريم لا يحتفي فقط بـ”أم نجيب وسميح”، بل يحتفي بـ”أم مصرية عظيمة” تنتمي إلى جيلٍ من الرائدات اللواتي تركن بصمتهن في وجدان الوطن.
أطال الله في عمرها، وبارك في صحتها، وجزاها خيرًا عمّا قدّمت.
تبقى يسريه لوزا ساويرس صفحةً مضيئة في سجلّ المرأة المصرية، ووجهًا من وجوه مصر التي لا تغيب، ورمزًا للكرامة والعطاء والإنسانية في أنقى صورها.

نعم، إن الجامعة البريطانية هي التي تشرفت بها، لا هي التي نالت شرف التكريم.
فالتكريم الحقيقي ليس شهادةً تُمنح، بل سيرةٌ تُروى، ومواقفٌ تُورث، وأثرٌ لا يُمحى.

المزيد

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى