
بعد نحو أسبوعين من الآن، وتحديدًا في التاسع عشر من نوفمبر عام ٢٠٢٥، ستُفتح في إسطنبول نافذةٌ مصرية تطلّ على التاريخ، حين يُرفع الستار عن المركز الثقافي المصري ومتاحفه الثلاثة، في حفلٍ يليق بعبق الحضارة وبريق الفكرة.
سيُشرّف الافتتاح حضورُ رموزٍ عربيةٍ وتركيةٍ رفيعةٍ من الفكر والسياسة والحرية، في مقدّمه المدعوين الرئيس التونسي الأسبق الدكتور المنصف المرزوقي، والسيدة توكل كرمان الحاصلة على جائزة نوبل للسلام، ونائب الرئيس العراقي الأسبق الدكتور طارق الهاشمي، ورئيس الوزراء المغربي الأسبق الدكتور سعد الدين العثماني، والنائب التونسي والمرشح الرئاسي السابق الأستاذ عماد الدائمي، إلى جانب نخبةٍ من المثقفين والأدباء والفنانين العرب والأتراك، ليشهدوا جميعًا ميلادًا جديدًا لرسالةٍ قديمة عنوانها: أن الحضارة لا تُورّث بالدم، بل بالوعي.
في قلب هذا الصرح، سيقوم متحف الحضارة المصرية القديمة كجسرٍ بين الماضي والمستقبل، يحتضن نُسخًا متكاملةً من كنوز مقبرة الملك توت عنخ آمون، وركنًا يفيض بأنوثة ودراما الملكات الخالدات، وركنًا آخر يكرّم الكاتب المصري الذي جعل من الكتابة وطنًا.
وثالثًا لرموز التوحيد في مصر القديمة، يتقدّمهم الملك إخناتون وزوجته الملكة نفرتيتي، والملكة تيي والدة توت عنخ آمون، المعروفة بـ مومياء التوحيد، تلك التي رفعت إصبعها يومًا إلى السماء في حركةٍ تشهد أن المصري عرف الوحدانية قبل أن تُعلنها الرسالات.
ويجاوره متحف الشخصيات المصرية والعربية الذي يضم ما يقارب مئة تمثالٍ وصورةٍ لرموزٍ شكّلوا الوعي العربي في القرنين التاسع عشر والعشرين، رجالًا ونساءً من ميادين الفكر والسياسة والفن، من الذين أضاءوا دروب النهضة، وغرسوا البذرة الأولى لفكرة الحرية والكرامة والإنسان.
ويأتي بعدهما متحف أدوات التصوير وتطورها عبر التاريخ، حيث تصطفّ مئة كاميرا كجنودٍ للضوء تحفظ ذاكرة الإنسانية، بينها آلةٌ ضخمة تعود إلى عام 1890 ميلادية، تزن قرابة نصف طن، تشهد أن الصورة ليست ظلًّا للواقع، بل روحًا له، وأن الكاميرا كانت — وما زالت — عينًا ضد العمى، وحارسًا للحقيقة في زمن التضليل.
غير أن هذا المركز لا يُريد أن يكون متحفًا جامدًا، بل روحًا نابضة بالحياة، ومنبرًا للحوار والتنوير، وساحةً لتلاقي الثقافات، تنبض بأنشطة جمعية الشرق للثقافة والإعلام في تركيا، لتؤكد أن مصر — وهي تستعيد مجدها عبر هذا الجسر الجديد — لا تُخاطب الماضي بل تُنادي المستقبل، وتقول: “الحضارة ليست ما نراه في المتاحف، بل ما نحمله في أرواحنا.”
الحضارة ، ليست أثرًا من حجرٍ أو ورق، بل إرثٌ يجري في دمك ومنقوشٌ في جيناتك، مختبئٌ في شِفرة الـDNA التي ورثتَها من أجدادك الذين علّموا العالم كيف يزرع، وكيف يُفكّر، وكيف يُحبّ.
لسنا أبناء الصدف، بل أبناءُ الذاكرة. في كل خليةٍ فينا تُقيم مومياءُ حلمٍ قديم، وفي كل نبضةٍ أثرٌ من طمي النيل، وفي كل قطرة ماءٍ ظلٌّ من يدِ إيزيس وهي تجمع أشلاء أوزوريس لتُعيده إلى الحياة.
الحضارة ليست لوحةً على جدار، بل نبضٌ يكتب القصيدة الأولى في تاريخ الوعي الإنساني.
حين كان الإنسان يحتمي بالشجر، كان المصريّ يقف أمام النيل ليتأمل وجه الله في انعكاس الماء.
حين كان البدويّ يطارد الغنيمة، كان الفلاح المصريّ يزرع البذرة ويفهم سرّ البعث، حين كان غيرُه يعبد النار، كان هو يُقدّس النور.
منذ أكثر من عشرة آلاف عام، علّم المصريّ العالم معنى الانتظار، ومعنى الصبر، ومعنى الأمل، حين رأى في سقوط البذرة حياةً أخرى، وفي انكسار الشمس ميلادَ نهارٍ جديد، من الطين صنع الخبزَ، ومن الكتّان نسجَ الثوبَ، ومن البردي كتبَ الحلمَ. لم يكن التأمل عنده ترفًا، بل عبادةً فكريةً تُنبت من رحمها الفلسفة والعلم والفن.
هذه الأرض التي أنجبت إخناتون وحتشبسوت ورفاعة الطهطاوي وسعد زغلول وطه حسين، لم تكن يومًا أرضًا محايدة، بل رحمًا يُنجب الفكرة والتمرد والجمال.
هي التي صاغت أولَ فكرةٍ للضمير، وأولَ قانونٍ للعدل، وأولَ نغمةٍ للجمال، وأولَ تعريفٍ للإنسان بوصفه إنسانًا.
من هنا بدأ علم الطبّ، والهندسة، والفلك، والإدارة، والموسيقى، والزمن نفسه، ومن هنا خرج الصوت الأول للحقيقة.
ومن هنا نُعلّم العالم اليوم — من إسطنبول — أن الحضارة ليست ماضينا فقط، بل مستقبلنا أيضًا، وأن من عرف نفسه لم يُهزم أبدًا، ومن حمل وعيه كان أعظم من كلّ مَن حمل سلاحًا.
المركز الثقافي المصري في إسطنبول ليس افتتاحًا لمبنى، بل بعثٌ لرسالة، وميلادٌ لجسرٍ بين النيل والبسفور، يربط بين ضفتيْن: ضفة الذاكرة وضفة الحلم.
إنه دعوة إلى أنسنة الحضارة، إلى أن نرى في المومياء إنسانًا، وفي الحجر حكمة، وفي الصورة وجدانًا، وفي مصرِنا القديمة معنى الإنسان الذي لم يخلق عبثًا، بل خُلق ليُبدع، ويخلّد، ويُحبّ.
هذه هي مصر التي نحملها إلينا..مصر التي لا تسكن المتاحف بل القلوب، ولا تنام في التاريخ بل تستيقظ كلّ يومٍ في الحلم، مصر التي تقول للعالم من جديد:
“هنا بدأت الحضارة… وهنا لن تنتهي.”







