
في مساءٍ ثقيلٍ من مساءات نوفمبر، يجلس الصمت على أبواب المرناقية، حيث يختبر جوهر بن مبارك بن عز الدين الحزقي حدود الجسد والروح معًا،في إضرابٍ عن الطعام لا يشبه إلا نفسه.
هناك، في زنزانةٍ ضيقةٍ، يخوض شابٌّ حقوقيٌّ عنيد معركة الكرامةفي زمنٍ يزداد قسوةً وبلادة،
زمنٍ اسمه ويا للمفارقة قيس سعيد.
تونس، التي أنجبت رجالًا وقفوا أمام الطغاة بصدورٍ عارية، تصمت اليوم صمتًا مريبًا،كأنها تخاف أن تعترف بأن أبناءها يُعاقَبون لأنهم حلموا فقط بوطنٍ أجمل.
أنا أكبر من جوهر سنًّا، لكنني أتذكر جيدًا والده، الرجل الذي وقف ذات يومٍ في وجه نظام بن علي،حين ترشّح ضده في انتخاباتٍ كان يعرف مسبقًا نتيجتها.كان يعلم أنه يسير نحو المستحيل، لكنه فعلها لأن الكرامة فكرةٌ تورّث،ولأن في بعض العائلات جيناتٍ لا تعرف الركوع.
ربما ورث جوهر عن أبيه ذلك الجنون الجميل:
أن يواجه آلة السلطة بضعف الجسد وقوة الموقف،
أن يبصق في عيون جلّاديه، ويجعل الخوف يعبر إلى ضفتهم لا إلى قلبه، حتى وإن أنهكه الجوع والعطش وضيق التنفس.
ليس هذا إضرابه الأول،لكنه يبدو وكأنه إضراب الوطن كله عن الصمت والخذلان. لأن المعادلة تغيّرت، ولأن القوة الغاشمة لم تعد تملك ما تبرر به وجودها، ولأن الأرض بدأت تميد تحت أقدام من ظنّوا، أن تونس يمكن أن تُساق كقطيعٍ أبكم.
سيأتي اليوم الذي يتغيّر فيه هذا المشهد، فمن لا يتغيّر… يُغيَّر.
وهذا التعيس الجاثم على صدورنا لا يملك القدرة على التكيّف مع متغيرات التاريخ، لذا فإن مصيره المحتوم هو الزوال.
تحية إلى جوهر بن مبارك بن عزالدين الحزقي،
إلى الجسد الذي صار جسرًا يعبر عليه الوطن نحو ضوءٍ أبعد من الجوع وأقوى من الظلم.







