
لم يمت الربيع، بل غفا قليلًا على كتف الحلم العربي الذي لم يزل ينبض في صدورٍ أتعبها القمع، وأرهقها الانتظار.
لم يمت الربيع، بل سكنت أزهاره تحت رماد الخوف، تنتظر مطرًا من الوعي ودفئًا من الإرادة.
فالربيع لا يُقتل، لأن الأوطان لا تموت في قلوب العاشقين، والحرية لا تُقبر مهما طال زمن الظلام.
ربما خفتت الأصوات، وتبعثرت الساحات، وارتدت الشعارات عباءة الصمت، لكن الجوهر لم يتبدل.
في كل شابٍ فقد حلمه، وفي كل أمٍ تبكي ابنها المهاجر، وفي كل معتقلٍ يكتب على جدار زنزانته آية الصبر — هناك ربيعٌ يتنفس في الخفاء، يتهيأ للعودة.
كانت الثورات حلمًا جماعيًا بـ حياةٍ تُشبه الإنسان، لا السلطان. وكانت خطيئة الربيع أنه صدّق قلوب الناس قبل أن يقرأ نيات من خانوه. ومع ذلك، فإن الحلم بالحرية لا يعتذر عن نفسه، ولا ينكسر بالخذلان، بل يعيد صياغة ذاته في كل جيلٍ جديد.
الربيع لم يمت.. لأنه فكرة، والفكرة حين تُروى بالدم لا تموت. هي تنام لتستيقظ أجمل، وتُغفى لتعود أنضج، وتختفي لتطلّ في شكلٍ آخر — ربما في كتاب، أو في صرخة، أو في صندوق اقتراعٍ شريف.
لقد أرادوه خريفًا يابسًا، فصار شتاءً يروي البذور التي زرعها الشباب.
أرادوه نهاية، فكان بدايةً أخرى تتشكل في صمت الشعوب.
كل زهرةٍ سُقيت بدمٍ، ستعود لتُزهر في وقتها، فالأرض لا تنسى عشّاقها.
ما بين القاهرة وتونس ودمشق وصنعاء، لا تزال النسائم الأولى للحرية تداعب الذاكرة.
ربما لم يبقَ من الربيع سوى رائحته العالقة في الحنين، لكنها رائحة لا تزول، لأنها خرجت من أنفاس الشهداء، ومن ضوء العيون التي لم تنطفئ بعد.
الربيع لم يمت.. بل استراح من عناء الذين شوهوه، ومن تجّار الشعارات، ومن العابرين فوق أكتاف الجياع.
نام قليلًا ليصحو أنقى، وأصدق، وأقرب إلى الناس الذين حلموا به، لا إلى الذين باعوه.
وحين يستيقظ الربيع، لن يُشبه ما عرفناه من قبل، بل سيجيء أكثر نضجًا وعدلًا ورحمة.لن يكون ثورة على الطغاة فقط، بل ثورة على الجهل، على الكراهية، على التباغض الذي أورثنا إياه الاستبداد.
فكل غفوةٍ للربيع هي درسٌ في الصبر، وكل خيبةٍ هي فصلٌ من فصول النضج الوطني. ومثلما تعود الشمس بعد كل ليل، سيعود الربيع بعد كل خريفٍ يظنه البعض أبديًا.
نحن لا نرثي ربيعنا، بل ننتظره كما ينتظر المؤمن وعد الصباح. نؤمن أنه سيعود، لأن الشعوب التي تعرف طريق النور، وإن تاهت عنه، لا تنساه. ولأن الوطن، مهما ثقل عليه التراب، لا يكفّ عن التنفس.
الربيع لم يمت.. بل غفا قليلًا. وفاته ليست ضعفًا، بل استراحة محاربٍ من أجل أن ينهض من جديد، في زمنٍ يكون فيه الإنسان هو الغاية، لا الضحية.







