تفاقم أزمة التلوث الصناعي في قابس.. صراع بين الحق في الحياة والاعتبارات الاقتصادية

تتصاعد في جنوب شرقي تونس أزمة بيئية خانقة في مدينة قابس، التي تُعدّ أكبر مركز للصناعات الكيمياوية في البلاد، وسط احتجاجات شعبية متواصلة تطالب بوقف الانبعاثات الغازية والتلوث الناتج عن مصنع الفوسفات المملوك للدولة في منطقة شاطئ السلام.
احتجاجات واسعة ومواقف رسمية
منذ أسابيع، تشهد قابس مظاهرات متكررة تطالب بإغلاق المصنع الذي أنشئ عام 1972 ويضم وحدات لتصفية الفوسفات لإنتاج الأسمدة.
ويعيش في محيط المصنع نحو 18 ألف نسمة، على بُعد 4 كيلومترات فقط من مركز المدينة.
وفي 21 أكتوبر الماضي، تظاهر أكثر من 100 ألف شخص وفقًا للمنظمين، للمطالبة بوقف التلوث الصناعي، فيما وصف الرئيس قيس سعيد هذه المظاهرات بأنها “نابعة من شعور عالٍ بالمسؤولية والوطنية”، محذرًا من محاولات “توظيف آلام المواطنين لحسابات سياسية”.
من جهته، تعهد وزير التجهيز والإسكان صلاح الزواري أمام البرلمان باتخاذ إجراءات عاجلة واستثنائية للحد من الانبعاثات الصادرة عن المصنع.
تقرير حكومي: مخالفات بيئية جسيمة
تقرير رسمي صدر في يوليو الماضي عن فريق خبراء كلّفه المصنع نفسه، كشف عن مستوى مرتفع وخطير من عدم المطابقة مع المعايير البيئية والاجتماعية التونسية والدولية.
وأشار التقرير إلى أن هناك تلوثًا هوائيًا واسع النطاق بسبب انبعاثات مكثفة لغازات الكبريت والفليور والأمونياك، دون منظومة فعالة لمعالجتها، إضافة إلى تجاوزات خطيرة في المياه المصرفة التي تهدد النظام البحري والساحلي.
كما وثّق التقرير قيام المصنع بـ إلقاء مباشر ومستمر لنفايات الفوسفوجيبس في البحر الأبيض المتوسط، وهو ما يؤدي إلى تدمير التنوع البيولوجي البحري وتراكم تلوث يصعب تداركه.
وأوضح أن المصنع يفتقر إلى نظام واضح لإدارة النفايات الخطرة أو سجلّ لتتبعها، فضلًا عن غياب شروط السلامة المهنية للعاملين وارتفاع معدلات الأمراض التنفسية بين السكان المجاورين.
وأوصى التقرير بـ وقف نهائي لرمي الفوسفوجيبس في البحر، وإرساء منظومة لمعالجة الغازات والمياه الصناعية، وتأسيس لجنة دائمة للتواصل مع المجتمع المحلي.
جدل بين الجانب الصحي والاقتصادي
يرى أحمد الهمامي، المتحدث باسم تحالف أحرار (المقرب من السلطة)، أن لأزمة قابس جانبين متلازمين: صحي واقتصادي.
وقال الهمامي إن “من حق أهالي قابس العيش في بيئة سليمة، ونحن نساندهم في ذلك”، مؤكدًا أن الاحتجاجات لم تتخذ طابعًا سياسيًا أو معارضًا، بل عبّرت عن مطالب مشروعة في حياة كريمة وهواء نقي.
لكنه حذر من أن إغلاق المصنع بالكامل قد يفاقم الأزمة الاقتصادية، لأنه “يشغّل نحو ألفي عامل بشكل مباشر”، مشددًا على أن الحل يكمن في إصلاحات جذرية وليس في التفكيك الكامل.
وأشار إلى أن الرئيس قيس سعيد أعلن منذ عام 2017 خطة لبيع المجمع الكيميائي لأطراف أخرى، إلا أن تنفيذ الإصلاحات ظلّ معطلًا بسبب ضعف الإرادة الإدارية والتشريعات المنظمة.
وأضاف الهمامي: “من غير المعقول أن يستمر المصنع في قتل الناس… أعلى نسبة إصابة بالسرطان في تونس موجودة في قابس، ومن يريد العلاج عليه السفر إلى صفاقس”.
الحراك الأهلي: لا حلول فعلية حتى الآن
في المقابل، قال صابر عمار، عضو حراك “أوقفوا التلوث”، إن الحكومة لم تقدّم حلولًا فعلية حتى الآن، مضيفًا أن ما أعلنه وزير التجهيز “ليس سوى تكرار لتوصيات التقرير الحكومي التي لم تُنفذ”.
وأوضح عمار أن المصنع “تجاوز عمره الافتراضي، والدولة عاجزة عن تمويل إصلاحاته المقدرة بستة ملايين دينار (نحو مليوني دولار)”، مشددًا على أن الحل الوحيد هو تفكيك الوحدات الصناعية الملوِّثة.
وأضاف أن تكلفة الإبقاء على المصنع أعلى من تكلفة تفكيكه، مشيرًا إلى أن التلوث أدى إلى “تدمير البحر، وإفقار الصيادين، وانتشار أمراض خطيرة بين السكان”.
وتابع: “من غير المنطقي حساب المسألة بعقلية التاجر الصغير. فالخسائر في قطاعات الصحة والصيد البحري والسياحة والفلاحة تفوق بكثير ما يدرّه المصنع من عائدات”.
بين الإصلاح والتفكيك.. المستقبل البيئي لقابس
تتقاطع الآراء بين من يدعو إلى إصلاح شامل للمجمع الكيميائي حفاظًا على الوظائف، ومن يطالب بـ تفكيكه حمايةً للبيئة والإنسان.
لكن المؤكد أن أزمة قابس تجاوزت حدود التلوث الصناعي لتصبح قضية إنسانية واقتصادية وتنموية في آن واحد، تمسّ حياة عشرات الآلاف من السكان، وتكشف ثمن التنمية غير المستدامة في تونس.
ويبقى السؤال مفتوحًا: هل تنجح الحكومة في الموازنة بين الحق في الحياة والحق في العمل، أم تبقى قابس نموذجًا مؤلمًا لـ مدن تدفع ثمن الصناعة بأرواح سكانها؟






