مقالات وآراء

د.تامر المغازي يكتب: حينما تصبح النفس سجّانًا في ظلم الإنسان للإنسان بين سلطان الذات وسلطة النفوذ

في المسرح العظيم للحياة، تُقام أبدًا معركة خفية داخل كل منا، معركة بين نداء الضمير وصوت الهوى، بين عدالة النفس وظلمها.

ولكن الخطر الحقيقي يبرز عندما تنتقل هذه المعركة من دواخلنا إلى واقع الآخرين، عندما تتحول “النفس الأمّارة بالسوء” إلى سلطة مُطلقة، وعندما يجد الإنسان ذو السلطة والنفوذ والمال في “الآخر” الضعيف مرمىً سهلاً لتعطشه للسيطرة، فيسقط في دوامة من الظلم، لا يدرك أن السجان الأول هو أسير نفسه قبل أن يكون سجانًا للغير.

حكم النفس للنفس.. حينما يكون السجّان من الداخل

قبل أن نبحث عن ظلم الحكام والرؤساء، علينا أن نتوقف عند أقسى أنواع الظلم ظلم الإنسان لنفسه. قال تعالى: “وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا * فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا * قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا * وَقَدْ خَابَ مَنْ دَسَّاهَا”.

هنا يكمن المنطلق فالنفس البشرية، إن لم تُزكّ وتُهذّب، تتحول إلى طاغية داخلي يمارس عليها ألوانًا من الظلم منها ظلم الجهل، وظلم الشهوات، وظلم اليأس، وظلم تلويث الفطرة السليمة.

هذا “الحكم الذاتي” الجائر هو البذرة الأولى لكل ظلم لاحق.

فالإنسان الذي يقسو على نفسه، ويظلمها بحرمانها من حقها في التطور والسلام الداخلي، سيُصبح من السهل عليه أن يقسو على الآخرين.

إنه يبني سجونه الداخلية أولاً، ثم يبحث عن سجون خارجية يُلقي فيها كل من يهدد وهم القوة الذي بناه حول ذاته.

وهناك تداعي السُلطة.. عندما يتحول النفوذ إلى غطاء للظلم

ها هو المنعطف الخطير، حيث تلتقي سلطان النفس الأمارة بالسوء بسلطة المنصب والمال.

يظن صاحب النفوذ، في غمرة قوته، أنه أصبح فوق المحاسبة، ليس فقط من البشر، بل من قيم العدالة والإنسانية ذاتها.

في هذه اللحظة، يتحول الإنسان الضعيف من كائن له كرامة وحقوق، إلى مجرد رقم في معادلة، أو عقبة في طريق، أو أداة يمكن استغلالها ثم التخلص منها.

هنا، نرى تجليات هذا الظلم بأبشع صوره .

وهناك الاستغلال الاقتصادي حيث يُحرم العامل من أجره، ويُستغل الفقير في حاجته.

و القتل المعنوي عبر إذلال الكرامة، ومصادرة الرأي، وإهانة الإنسان لمجرد أنه لا يملك قوة موازية.

وهناك تزييف الحقائق حيث تُستخدم الأموال والسلطة لطمس الحق وشرعنة الباطل، فيصبح الظالم بطلاً والضحية مُجرمًا.

والاكثر الفساد المؤسسي وهو أخطر أنواعه، حيث يتحول الظلم من فعل فردي إلى نظام قائم بذاته، يكرس لخدمة الأقوياء على حساب دماء الضعفاء.

وبعد ذلك تبدأ دوامة الدمار..

وعواقب لا تقع على الضعيف وحده

الوهم الكبير الذي يعيشه الظالم هو أن الظلم يمر دون عواقب.

ولكن الحقيقة أن دائرة الدمار تشمل الجميع .

·فالضعيف يفقد الثقة في العدالة، وفي المجتمع، وربما في الإنسانية ذاتها، مما يخلق بذور الكراهية والرغبة في الانتقام.

و الظالم هو الخاسر الأكبر على المدى البعيد.

فظلمه يعود عليه بلعنة نفسية وأخلاقية.

إنه يعيش في قلق دائم من فقدان سلطته، وفي خوف من انقلاب الضعفاء عليه.

يبني قصورًا من ذهب، لكنه يسكن سجونًا من رعب ذاتي.

يملك كل شيء، لكنه يفقد سلامه الداخلي وإنسانيته.

و المجتمع يتحول إلى غابة يأكل فيها القوي الضعيف، مما يؤدي إلى تفكك النسيج الاجتماعي، وانهيار قيم التكافل والتعاون، وانتشار الفساد والجريمة.

نحو استعادة الإنسانية المسلوبة في النهاية، تبقى المواجهة الحقيقية هي مواجهة الذات.

إنها الدعوة إلى محكمة الضمير التي لا تعرف تزييفًا، وإلى مراجعة النفس قبل محاسبة الآخرين.

على صاحب السلطة أن يتذكر أنه “وكيل” وليس “مالكًا”، وأن القوة هبة لخدمة الناس لا لاستعبادهم.

وعلى المجتمع أن يبني حواجز رادعة، عبر سيادة القانون والمؤسسات الشفافة، تحمي الضعيف من جبروت القوي، وتذكر القوي بأنه، في لحظة ما، قد يصبح هو الضعيف.

فالعدالة ليست ترفًا فكريًا، بل هي ضرورة وجودية لاستمرار الحياة الكريمة.

وإنصاف الضعيف ليس منّة من أحد، بل هو إعادة لروح الإنسانية التي سلبتها نزوات النفوس، وجشع السلطة، وطغيان المال.

فهل نعي الدرس؟

هذا المقال هو محاولة لتسليط الضوء على قضية أبدية، نراها تتجلى في كل العصور والمجتمعات، بأشكال وأسماء مختلفة، لكن الجوهر يبقى واحدًا وهو الصراع بين الخير والشر داخل النفس البشرية، وانعكاس ذلك على علاقتنا ببعضنا البعض.

المزيد

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى