مقالات وآراء

د.محمد عماد صابر يكتب: رمزية استخراج جثة هدار غولدن.. انكشاف الاستخبارات وعبقرية المقاومة

إعلان كتائب القسام عن استخراج جثة الضابط الإسرائيلي هدار غولدن لم يكن حدثًا عابرًا، بل محطة كاشفة عن انهيار المنظومات الأمنية والعسكرية والاستخباراتية لإسرائيل، …..في مقابل صعود نموذج مقاوم يتمتع بقدرات غير مسبوقة في التخطيط، والإدارة، والبناء الإيماني.


أن تعجز إسرائيل ومعها أجهزة استخباراتٍ غربية عن معرفة مصير ضابط أُسر منذ عام 2014 حتى عام 2025، فذلك يفضح هشاشة منظومة طالما ادّعت أنها الأقوى في المنطقة.


إن فشلها في استعادة الجثة رغم التفوق التقني والاستخباري يعكس انهيار الثقة داخل الجيش والمجتمع الإسرائيلي، ويكشف أن القوة لا تُقاس بما تملكه من أجهزة، بل بما تملكه من إرادة وصبر وذكاء ميداني.


لقد كان ملف هدار غولدن عقدة سياسية وعسكرية لإسرائيل، إذ فشل جيشها في استعادته بالقوة، واضطر في النهاية إلى مشهد مذلّ: اعترافٍ ضمنيٍّ بأن كتائب القسام وحدها من تعرف الحقيقة، وأن مفاتيحها بيد من وصفهم الاحتلال طويلاً بـ”المنهزمين”.


عملية استخراج الجثة كانت نموذجًا في الإتقان والاحتراف. أن تُدار العملية في منطقة رفح المحاصرة، تحت أعين الاحتلال، وبوجود فريق من الصليب الأحمر، فذلك دليل على منظومة تنظيمية محكمة تجمع بين الهندسة والاستخبارات والتوقيت السياسي والقدرة على التنسيق الميداني العالي.


لقد أثبتت كتائب القسام أن المقاومة لا تعمل بعشوائية، بل ضمن هندسةٍ عقلانيةٍ تراكمت عبر عقود، تمزج بين الإيمان والتكنولوجيا، بين العقيدة والانضباط، بين السرية والمبادرة. وهي اليوم قوة مؤسسية بكل المقاييس، وليست مجرد فصيلٍ عسكري.


أما العالم الذي حارب حماس وسعى إلى شيطنتها، فقد وجد نفسه أمام مشهد يعكس معادلةً مغايرة: الدول نفسها التي دعمت العدوان أو بررته تقف اليوم مذهولة أمام فشل إسرائيل، بينما تمارس المقاومة أدوارًا تفاوضية من موقع الندية.


كل القوى التي شاركت في حصار غزة تقف عاجزة أمام واقعٍ صغيرٍ لكنه بالغ الدلالة: بعد 11 عامًا من البحث والاستخبارات، لم يجدوا سوى الاعتراف بأنهم فشلوا، وأن غزة الصغيرة تُعيد تعريف ميزان القوة في الشرق الأوسط.
أن يُستخرج الجثمان بعد 11 عامًا هو رسالة زمنية عن الصبر الإستراتيجي والقدرة على إدارة الملفات طويلة الأمد.


خلال هذه السنوات تغيّرت الحكومات في إسرائيل وتبدلت المعادلات الإقليمية، لكن كتائب القسام ظلت حافظةً للأسرار، حارسةً للعهود، لا تُفرّط في ورقةٍ واحدةٍ من أوراقها. إنها مدرسة “التخطيط في الصمت”، والانتظار في صبر، والعمل في الظل، حتى تحين اللحظة التي تتحول فيها التفاصيل الصغيرة إلى إنجازٍ استراتيجيٍ كبير.


توقيت الإعلان عن استخراج الجثة لم يكن عشوائيًّا؛ فهو يأتي في لحظة تفاوضية حساسة تتعلق بمقاتلي القسام العالقين في رفح، ما جعل الجثة تتحول من عبءٍ رمزي إلى أداةٍ تفاوضية قوية.


بهذا التصرف أثبتت المقاومة أنها تمسك بخيوط اللعبة السياسية كما تمسك بخيوط البندقية، وأنها تعرف متى تُصعّد ومتى تُرسل إشارات تهدئة دون أن تتنازل عن ثوابتها.


الحدث لا يمكن فهمه دون استحضار البعد الإيماني في بناء المقاومة. فذلك الإيمان العميق بالوعد الإلهي، والصبر على البلاء، والإخلاص في العمل، هو الذي جعل رجال القسام يصنعون ما عجزت عنه جيوش منظمة. إنها عقيدة تؤمن أن النصر وعدٌ لا خيال، وأن المقاومة ليست مجرد سلاح، بل عبادة ووعي وتخطيط ممتدّ من منطلق عقدي راسخ.


كل المؤشرات التاريخية والعسكرية والمعنوية تدل على أن الكيان الصهيوني يدخل مرحلة الانحدار الوجودي: جيش مهزوز، مجتمع مفكك، أزمة قيادة داخلية، وفشل استخباراتي متكرر، يقابلها مقاومة متماسكة، مؤمنة، تُجيد إدارة الحرب والسياسة معًا.


هذه ليست معركة على جثمان، بل معركة وعي ورسائل: من يمتلك النفس الطويل، ومن يملك الإيمان بالغاية.
﴿وَلَيَنصُرَنَّ اللَّهُ مَنْ يَنصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ﴾ [الحج: 40]


استخراج جثة هدار غولدن ليس نهاية قصة، بل فصل جديد في مسار الوعي والميدان، وإعلانٌ بأن المقاومة تجاوزت مرحلة الدفاع إلى مرحلة إدارة المعركة بكل أدواتها، وأن الاحتلال الذي وُلد بالعدوان سيزول كما زالت كل الإمبراطوريات الظالمة، لأن السنن لا تتبدّل، والوعد بالنصر باقٍ لمن صبر وثبت.

المزيد

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى