مقالات وآراء

د. تامر المغازي يكتب: جذور متأصلة وحاضر واعد رحلة العلاقات المصرية الهولندية عبر العصور

لا تُقاس متانة العلاقات بين الدول بسنوات محدودة، بل بمدى عمق الجذور التاريخية والثقافية التي تغذيها.

والعلاقة بين مصر وهولندا هي النموذج الأمثل لصداقة إنسانية وحضارية ضاربة في أعماق التاريخ، تطورت عبر القرون من تبادل تجاري بسيط إلى شراكة استراتيجية شاملة في مواجهة تحديات العصر، أبرزها التغير المناخي وإدارة المياه.

بدايات التاريخ لمحة من الماضي على الرغم من أن العلاقات الدبلوماسية الرسمية بين البلدين لم تُقام إلا في العصر الحديث، إلا أن المؤرخين يؤكدون أن جذور التواصل تعود إلى قرون مضت.

ففي العصور الوسطى، كانت البضائع المصرية، وخاصة التوابل والمنسوجات القطنية الفاخرة، تصل إلى موانئ هولندا التجارية العظيمة عبر شبكات التجارة الأوروبية المعقدة.

غير أن اللحظة الفارقة في تاريخ العلاقات كانت في القرن السابع عشر، العصر الذهبي الهولندي، حين أصبحت المملكه الهولندية قوة بحرية وتجارية كبرى.

آنذاك، التقطت اللوحات الهولندية، خاصة في عصر “الرسم الهولندي الذهبي”، مظاهر من الحياة المصرية، كما أن القاهرة والإسكندرية أصبحتا محطتين على خريطة الرحالة والتجار الهولنديين الذين سجلوا انطباعاتهم عن عظمة نهر النيل وروعة الآثار المصرية.

مع مطلع القرن العشرين تم تأسيس الشراكة الحديثة مع ازدياد الاعتراف الدولي بمصر كدولة مستقلة، بدأت العلاقات تأخذ شكلاً مؤسسياً أكثر وضوحاً.

كان لموقف هولندا الداعم لاستقلال الدول دور في تقوية الروابط.

وبافتتاح السفارة الهولندية في القاهرة، والسفارة المصرية في لاهاي، اكتملت البنية الدبلوماسية التي أصبحت القناة الرسمية لتطوير التعاون في جميع المجالات.

وتعد ركائز التعاون في القرن الحادي والعشرين هي شراكة في مواجهة المستقبل فاليوم، لم تعد العلاقات المصرية الهولندية مجرد صداقة تاريخية، بل هي شراكة استراتيجية قائمة على مصالح متبادلة وإدراك للتحديات المشتركة.

ويمكن إبراز ركائز هذه الشراكة في عدة محاور ومنها التجارة والاستثمار التي تُعد هولندا واحدة من أكبر الشركاء التجاريين لمصر في الاتحاد الأوروبي، كما أنها واحدة من أكبر الدول المستثمرة فيها.

يتركز الاستثمار الهولندي في مجالات الزراعة، والطاقة، والخدمات اللوجستية، والصناعات الغذائية.

وتشتهر الشركات الهولندية بالريادة في مجال الزراعة في البيئات المحمية وتقنيات الأغذية، وهو ما تحتاجه مصر لتحقيق الأمن الغذائي.

وكذلك إدارة المياه و شراكة مصيرية وهنا تكمن قصة نجاح فريدة. فمصر، هبة النيل، وهولندا، هبة نهر الراين ودلتا تصارع البحر، تجمعهما رحلة صراع وتآلف مع الماء.

لا توجد دولة في العالم تفهم تحديات العيش تحت مستوى سطح البحر وإدارة الدلتا مثل هولندا.

وهذا ما جعلها الشريك الأبرز لمصر في مشروعات حماية السواحل الشمالية ودلتا النيل من خطر الغرق بسبب التغير المناخي.

إن التعاون الفني وتبادل الخبرات في هذا المجال يحمل بعداً وجودياً لكلا البلدين.

وهناك الثقافة والتعليم فيمتد التبادل الثقافي من تنظيم المعارض الفنية المشتركة، مثل معارض “رمبرانت ومصر”، إلى برامج المنح الدراسية للطلاب المصريين في الجامعات الهولندية المرموقة، خاصة في مجالات الهندسة المائية وإدارة المياه.

كما يشهد قطاع السياحة تدفقاً مستمراً للسياح الهولنديين الذين يجذبهم نور التاريخ المصري العريق ودفء شمسها.

والتحديات العالمية فيتعاون البلدان بشكل وثيق في ملفي الهجرة غير المنتظمة ومكافحة الإرهاب، بالإضافة إلى تنسيق المواقف في المحافل الدولية.

مصر وهولندا شراكة تتخطى الجغرافيا فالعلاقات المصرية الهولندية هي نموذج ملهِم للعلاقات الدولية.

إنها قصة تبدأ بباخرة تجارية راسية في الإسكندرية وتحمل توابل، وتصل إلى اجتماعات تقنية في لاهاي والقاهرة حول كيفية إنقاذ دلتا النيل.

هي علاقة لم تُبنَ على القرب الجغرافي، بل على الاحترام المتبادل، والمصلحة المشتركة، والإدراك بأن تاريخ البلدين الحضاري وتحدياتهما البيئية صنعا بينهما رباطاً فريداً.

وفي عالم مليء بالتحديات، تظل هذه الشراكة الواعية دليلاً على أن إرادة التعاون تستطيع أن تبني جسوراً أقوى من أي حدود.

المزيد

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى