
كم مرة وقفنا فيها مذهولين، نرى شخصاً أنانياً بلا ضمير يتربع على عرش النجاح، بينما نرى شخصاً طيباً، أمضى حياته في العطاء، يغوص في بحر من المشكلات؟
هذا المشهد المألوف يدفعنا لطرح سؤال وجودي مؤلم: أين العدالة؟
لماذا يبدو أن الحظ السعيد يختار أحياناً من لا يستحق، بينما يتخلى عن أصحاب القلوب الطيبة؟
إنها ليست مجرد صدفة، بل هي ظاهرة يمكن تفسيرها من خلال عدسة مختلفة، عدسة تبتعد عن فكرة “الحظ” الغامضة وتنقب في جذور السلوك البشري وآليات الحياة.
الحظ السعيد لمن لا يستحق ليست “حظاً” بل استراتيجية!
غالباً ما يُخطئ المرء عندما يسمي نجاح الشخص “غير المستحق” بالحظ.
فما نراه من صعود متلألئ قد يكون مدفوعاً بسلوكيات لا يتورع عنها أصحاب الضمير الحي.
الأنانية والتركيز على الذات
الشخص الذي يضع مصلحته فوق كل اعتبار، لا يتوقف عند حدود الأخلاق أو المشاعر لتحقيق مكاسبه.
هذا يحرر طاقته بالكامل للتقدم، بينما يقيد الشخص الطيب نفسه بمبادئه واهتمامه بمشاعر الآخرين.
الجسارة وعدم الخوف من الفشل
عندما لا يهمك من تُؤذي أو كيف تصل، تفقد الخوف من الخسارة.
هذه الجسارة، وإن كانت سلبية، تفتح أبواباً قد يتردد الطيب في اقتحامها.
التركيز على المظهر لا الجوهر
إتقان لعب الأدوار والتلاعب بالانطباعات هو سلاح فعال.
كثيرون يبيعون أوهاماً ويصدقهم العالم، بينما ينشغل أصحاب القيم الحقيقية بالعمل الجاد في الخفاء.
شبكة العلاقات النفعية
يبني هؤلاء علاقات قائمة على المنفعة المباشرة فقط، مما يخلق لهم شبكة واسعة تدعم صعودهم، حتى لو كانت علاقات هشة غير مبنية على الاحترام الحقيقي.
وهناك الحظ السيء لأصحاب القلوب الطيبة… ثمن الطيبة ووهم العدالة المباشرة
لا يعاني الطيبون من “حظ سيء” بقدر ما يعانون من تبعات اختياراتهم النبيلة.
ثمن النزاهة
رفض الكذب، الغش، أو استغلال الآخرين يعني رفضاً للطرق السريعة نحو “النجاح”.
هذا ليس حظاً سيئاً، بل هو ثمن شريف يدفعه الإنسان لنزاهته.
عبء التعاطف
القلب الطيب يحمل هموم الآخرين، ويبذل وقته وطاقته وموارده لمساعدتهم.
هذه الموارد نفسها يمكن أن تُستثمر في الذات، لكنهم يختارون العطاء، مما قد يبطئ من تقدمهم الشخصي.
توقع العدالة المباشرة
الكثير من الطيبين يعتقدون خطأً أن الحياة يجب أن تكافئهم فوراً على طيبتهم.
وعندما لا يحدث ذلك، يصابون بالإحباط ويصفون الأمر بـ”الحظ السيء”.
لكن الحياة لا تعمل بهذه الآلية المباشرة… أثر الطيبة غالباً ما يكون تراكمياً وباطنياً.
ضعف المطالبة بالحقوق
الطيبة أحياناً تُخلط مع الضعف.
قد يتردد الشخص الطيب في المطالبة بحقه أو في الترويج لنفسه خوفاً من أن يبدو متغطرساً، فيضيع فرصه بينما يخطفها من لا يتورع عن الصراخ.
العدالة المتأخرة… قراءة مختلفة للمشهد
قبل أن نستسلم للإحباط، يجب أن نعيد قراءة المشهد:
النجاح الحقيقي مقابل الثراء الظاهري
النجاح ليس مجرد أموال أو مناصب.
هل الشخص “المحظوظ” غير المستحق يعيش بسلام داخلي؟
هل يثق بأحد؟
هل يحبه أحد حباً حقيقياً؟
غالباً تكون الإجابة: لا.
بينما يملك الطيب كنزاً لا يقدر بثمن: ضمير مرتاح، وقلب مطمئن، ومحبة حقيقية من حوله.
الاستدامة
الصعود المبني على الرمال ينهار عاجلاً أم آجلاً.
الثقة التي يخسرها الشخص الأناني والعلاقات التي يحرقها… ستكون سبباً في سقوطه.
بينما صعود الطيب — وإن كان بطيئاً — هو صعود متين ومستدام.
الإرث
من الذي سيذكره الناس بالخير بعد رحيله؟
من سيترك أثراً طيباً في العالم؟
بالتأكيد ليس من سار على جثث الآخرين، بل ذلك الذي ساعد وساند وأضاء حياة من حوله.
خاتمة
الحياة ليست سباقاً قصيراً، بل ماراثون طويل.
ما نسميه “حظاً” هو في كثير من الأحيان محصلة لخياراتنا وسلوكياتنا وطريقة قراءتنا للأحداث.
ربما لا يكافئ الكون الطيبين بالمال الوفير أو المناصب اللامعة دائمًا، لكنه يكافئهم بشيء أغلى:
السلام الداخلي، احترام الذات، حب حقيقي، وإرث إنساني يبقى بعد زوال المال والجاه.
في المرة القادمة التي ترى فيها “حظاً سيئاً” يلاحق قلباً طيباً… تذكر أنك تشاهد فصلاً واحداً فقط من مسرحية طويلة.
النهاية الحقيقية غالباً ما تكون مختلفة.
فالطيبة ليست ضعفاً… بل قوة هادئة وزراعة طويلة الأمد، ستثمر خيراً وبركة للأجيال القادمة.







