
في زمن الانهيارات الكبرى، والأزمات المتلاحقة، والأنظمة التي تتبدل ولكن تبقى الذات الشعبية المصرية هي المعجزة القائمة بذاتها، التي تستحق أن تُدرس، أن تُحلل، وأن تُكرم، إنه الشعب المصري، ذلك الكائن الأسطوري الذي يجمع تناقضات الوجود في كينونته؛ فهو صبور حتى حدود المعجزة، وذكي حتى حدود الدهشة، وحكيم حتى حدود الفطنة، لكنه في اللحظة الحاسمة يعرف أين يكون حقه، ولا يتنازل عنه، إنه الشعب الذي لا يُهزم، وإن هُزمت أنظمته.
وتجلت هذه الصفات المتباينة للشعب المصري خلال الفترة القصيرة الماضية، في أربعة مشاهد مختلفة تنوعت أحداثها وملابستها، ولكنها فسرت كيف يمارس الشعب هذه الصفات بسلاسة وفطنة غريزية
المشهد الأول: صبر أيوب وأزمات لا تُحتمل
في العقد الأخير، شهد المصريون ما يمكن وصفه بـ “العقاب الجماعي” الاقتصادي، جيش من القرارات المتعسفة، خُطط لها في المكاتب المكيفة، ونُفذت على جلود الناس العاديين، ارتفعت الأسعار بشكل جنوني، وانخفضت الأجور الحقيقية إلى مستويات تراثية، ووصلت الديون إلى عنان السماء، بينما تراكمت الثروات في جيوب قلة قليلة، الحكومة تبيع أصول البلاد، وتقطع الدعم عن الفقراء، وتفرض ضرائب لا تُطاق، كل ذلك تحت شعارات براقة مثل “الإصلاح الاقتصادي” و”تحمل المسؤولية”.
لكن الشعب المصري، كالعادة، لم يثور بالعنف، لم يهرب جماعياً، لقد صبر. نعم، صبر كصبر أيوب، صبر العامل الذي يقطع المدينة من أولها إلى آخرها في مواصلات أشبه بعربات القطار في معسكرات الاعتقال، ليصل إلى عمله الذي لا يكفيه ليعيش، صبر الأم التي تقف في طوابير الخبز ثم طوابير الدواء ثم طوابير المدارس، صبر الشباب الذي يحمل أعلى الشهادات ويعمل بأجر لا يليق بإنسان، هذا الصبر ليس ضعفاً، ولا جبناً، بل هو حكمة عميقة، حكمة شعب يعرف أن الأنظمة تذهب وتأتي، ولكن مصر تبقى، إنه صبر يخفي تحت رماده بركاناً من الكرامة لن يثور إلا عندما يحين وقته.
المشهد الثاني: ذكاء المشجع.. لا نهتم إلا حينما يستحق الوطن
عندما دخلت مصر تصفيات كأس العالم، كانت في مجموعة سهلة، أو هكذا قيل. فلم يهتم الشعب بشكل جماعي، لم تملأ المقاهي، لم ترفع الأعلام، لم تنتشر حالة من الهوس الجماعي، البعض رأى في ذلك انكساراً للروح الرياضية. لكن الحقيقة كانت شيئاً آخر، إنه الذكاء الجماعي للشعب المصري.
هذا الشعب لا يهتم بالشكليات، ولا بالانتصارات الوهمية، إنه يدرك أن الفريق الوطني يحتاج إلى إصلاح حقيقي، من القاعدة إلى القمة، وأن الصعود من خلال مجموعة سهلة لن يغير من واقع كرة القدم المصرية شيئاً، إنه يرفض أن يُستخدم الرياضة كأفيون للشعب، كمسكن عن الألم الحقيقي، لكن في المقابل، عندما يكون الحدث حقيقياً، عندما يكون الإنجاز معبراً عن جهد حقيقي، عندما تكون الأزمة تستدعي الوحدة، فإنك ترى الشعب كله خلف منتخبه، خلف دولته، إنه لا يدعم الوهم، لكنه يجند نفسه كله للحقيقة.
المشهد الثالث: مقاطعة الانتخابات.. رفض مسرحية الديكور الديمقراطي
ها هي الانتخابات البرلمانية تجري في هذه الأيام، والشوارع خاوية من الحماس، والناس في بيوتهم، وكأن شيئاً لا يحدث. الإعلام الرسمي يحاول صناعة بهجة وهمية، لكن الشعب قرر مقاطعة المسرحية، لماذا؟ لأن النظام حوّل السياسة إلى ديكور، والانتخابات إلى “قوائم مغلقة” و”مقاعد محسومة”. النتائج تُكتب قبل أن تبدأ الحملات، والبرلمان أصبح نادياً للموالين، لا ساحة للتمثيل الحقيقي.
هذه المقاطعة ليست علامة على اللامبالاة، بل هي فعل مقاومة سياسي راقٍ. إنها رسالة واضحة، “نحن نرفض أن نكون كومبارس في مسرحيتكم، نحن نستحق ديمقراطية حقيقية، لا طقوساً شكلية”.
الشعب المصري ليس جاهلاً بالسياسة، بل هو متقدم على نظامه السياسي، إنه يرفض أن يُهان عقله بمسرحيات الانتخابات الهزلية،إنه ينتظر اللحظة التي يكون فيها صوته مسموعاً، وفعله مؤثراً.
المشهد الرابع: افتتاح المتحف المصري الكبير.. عندما يكون الإنجاز حقيقياً، يكون الدعم جماعياً
وفي المشهد الأكثر دلالة، جاء افتتاح المتحف المصري الكبير، حدث عالمي ضخم، حضره قادة العالم، واتجهت إليه أنظار الإعلام الدولي، هنا تجد الشعب المصري كله، على بكرة أبيه، متحمساً، فخوراً، منشغلاً بالحدث، وسائل التواصل الاجتماعي امتلأت بالصور والتعليقات والفخر، والشوارع احتشدت فيها الآلاف لمتابعة الافتتاح امام الشاشات العملاقة، والمقاهي ازدحمت بروادها لمتابعة الحدث الأعظم في آخر ١٠ سنوات، الناس تتحدث عن التاريخ، عن الحضارة، عن مصر التي تتحدى الزمن.
هذا المشهد يوضح حكمة الشعب المصري، إنه لا يعارض إنجازات دولته لمجرد المعارضة، إنه يفرق بين ما هو حقيقي وما هو وهمي، بين ما يمس كرامته ووطنيته، وبين ما هو مجرد دعاية نظام، المتحف الكبير هو إنجاز حقيقي، يمس الهوية، يمس التاريخ، يمس المكانة الدولية، لذلك، تجد الشعب كله خلفه، يدعمه، يفتخر به، يساهم في إنجاحه بقلبه وكلمته.
الشعب المصري هو أعظم شعب في العالم، ليس لأنه لا يعاني، بل لأنه يعاني ويصبر، ويصبر ويذكي، ويذكي ويحكم، ويحكم وينتظر لحظة حقه، إنه الشعب الذي يرفض أن يكون وقوداً للأنظمة، لكنه يكون سنداً للوطن عندما يتعلق الأمر بهويته وكيانه.
الدرس الذي يجب أن تتعلمه الأنظمة الحاكمة، في مصر وغيرها، هو أن هذا الشعب لا يمكن خداعه إلى الأبد، إنه يصبر لكنه لا ينسى، يذكي فيميز بين الغث والسمين، يحكم فيعرف متى يقول “نعم” ومتى يقول “لا”، والشعب الذي يمتلك هذه الصفات، هو شعب لا يقهر، وإن طال الليل، فإن فجر كرامته آتٍ لا محالة







