
فعلتها الحكومة الأميركية لمدة تزيد عن 43 يوماً، فما المانع في أن تفعلها بعض الحكومات العربية التي تعاني موازنتها العامة من عجز حاد وضعف في الإيرادات وسفه في الإنفاق وخلل في المخصصات العامة خاصة الموجهة للأجور والخدمات الحيوية من تعليم وصحة وبنية تحتية؟
في أميركا ومنذ بداية شهر أكتوبر/تشرين الأول الماضي وحتى 12 نوفمبر/تشرين الثاني الجاري، تم تسريح نحو 1.4 مليون موظف فيدرالي ووضعهم في إجازة غير مدفوعة الأجر أو واصلوا العمل دون أجر، وتعطلت خدمات المؤسسات الحكومية لقرابة ستة أسابيع، بسبب الإغلاق الحكومي الأطول في تاريخ الولايات المتحدة.
ويوم الخميس 13 نوفمبر، تم إنهاء الإغلاق الحكومي، بعد موافقة الكونغرس على مشروع تمديد التمويل الحكومي حتى يناير/كانون الثاني المقبل، وذلك بعد تعرض الدولة لخسائر اقتصادية فادحة، حيث ترتب على إغلاق ستة أسابيع، شلل سياسي ومشكلات اقتصادية وأزمات اجتماعية، عانت منها شرائح أصحاب الدخول الثابتة من الموظفين الحكوميين في أميركا، كما تأثرت سلبيًا أسواق المال والدين والاستثمار، وبعض البورصات الخاصة بالعملات التقليدية والرقمية وكذلك أسعار الذهب والمعادن والنفط.
ومع الزوبعة التي أثارها قرار الإغلاق الحكومي الأميركي فإن السؤال المطروح وبقوة: لماذا لا يتكرر السيناريو داخل المنطقة العربية خاصة للدول التي تعاني من عجز مالي حاد مع سفه في الإنفاق على مشروعات لا علاقة لها بالمواطن؟
ولماذا يتم تمرير الميزانيات الحكومية من قبل حكومات المنطقة وبرلماناتها رغم عجزها، دون إحداث هذه الجلبة التي شهدتها الولايات المتحدة لمدة ستة أسابيع، وبدون حدوث تعطيل يطاول الأفراد والمؤسسات؟
واقع الميزانيات العربية
نظرة إلى التقرير الاقتصادي العربي الموحد لعام 2024، تشير إلى أن قيمة الميزانيات العامة لنحو 12 دولة عربية في عام 2023 بلغ ما يزيد عن 2 تريليون دولار، وأن إجمالي الإنفاق العام بلغ 1036 مليار دولار، كما بلغ إجمالي الإيرادات العامة 976 مليار دولار، وبذلك فإن العجز بلغ نحو 60 مليار دولار.
والبيانات التي عرضها التقرير الصادر عن مؤسسات الجامعة العربية، تخص نحو نصف الدولة العربية، من إجمالي 21 دولة، وبلا شك فإن 2 تريليون دولار في منطقتنا العربية، رقم يستحق الوقوف عنده.
من البيانات المتممة في إطار الحديث عن الميزانيات العربية، أمر الدين العام للدول العربية، والذي قدره التقرير بنحو 1326 مليار دولار، وهو ما يمثل 39.3% من الناتج المحلي الإجمالي للدول العربية، البالغ 3.3 تريليونات دولار.
وبنظرة أيضا إلى قضية الديون العامة في الدول العربية، وبخاصة غير النفطية منها، نجد أنها كفيلة بإزاحة الحكومات، وليس فقط مجرد الإغلاق الحكومي، فلم يُسمع في الدول العربية أنه تم عرض لكيفية التصرف في الديون العامة، ولا أن قدمت الحكومات برامج زمنية للتخلص من أعباء هذه الديون، أو محاسبة مسؤول أو حكومة ارتفعت في عهدها الديون العامة، وكيف أنفقت.
والميزانية العامة للدولة، مكوّن معتبر في واقع الدولة الحديثة، نظرًا لأنها بشكل عام تحدد الدور الاقتصادي والاجتماعي للدولة، كما أنها تعتمد بشكل كبير على الإيرادات الضريبية، مما يستلزم الشفافية والمشاركة من قبل الحكومة، وكذلك يستلزم الأمر الرقابة والمحاسبة من قبل البرلمانات والمجتمعات بشكل عام.
إجراءات ورقية لا تسمن ولا تغني من جوع
في الدول العربية تنص الدساتير على إلزام الحكومة بتقديم الميزانيات للبرلمانات وضرورة اعتمادها من قبل المجالس التشريعية في مواعيد محددة، بعد مناقشتها، وكذلك اعتماد حساباتها الختامية.
إلا أن الواقع العملي، وفي ضوء المعطى السياسي للواقع بدولنا العربية، يتم تمرير الميزانيات ومناقشتها واعتمادها، ومراجعة حساباتها الختامية، بشكل روتيني في أغلب الأحيان، دون أي عبء لما تتضمنه من عجز أو دين عام، من شأنه أن يؤثر على المقدرات الاقتصادية والاجتماعية للشعوب.
ومما يساعد على هذا الواقع السلبي، سيطرة الحكومات والسلطة التنفيذية على مقدرات السلطتين التشريعية والقضائية، وكذلك المؤسسات الرقابية، حيث تفتقد الأخيرة الاستقلالية المطلوبة بسبب أن السلطة التنفيذية هي من تأتي بالعاملين بهذه المؤسسات، وبالتالي يتم العمل وفق القاعدة المشهورة “الولاء مقابل العطاء”.
وبعض الدول العربية مضى على استقلالها أكثر من سبعة عقود، ورغم طول هذه المدة لم يحدث مرة أن رد البرلمان في دولة عربية الميزانية المقدمة من الحكومة، أو حاسبها على قضايا الميزانية الكبرى، مثل الدين العام، وكيف تم التصرف فيه؟
ويمكن القول إن الالتزامات الدستورية والقانونية بشأن الميزانيات في الدول العربية، تتم بشكل ورقي وإجرائي، دون تفعيل حقيقي لتلك النصوص أو القوانين، مما يجعل رجل الشارع في حالة عزوف وعدم اهتمام بما يتم في هذا الشأن.
اللهم الاستثناء الذي تم مؤخرًا، من اتباع سياسات تقشفية، وإلغاء صور الدعم الاجتماعي، من غذاء ووقود ومياه وكهرباء، مما زاد من الأعباء على أرباب الأسر، فأتت شكاوى الناس من الإجراءات، دون اهتمام بمسألة محاسبة الحكومة في كيفية تصرفها في الميزانيات، أو معاقبة أعضاء البرلمانات الذين يساعدون على تمرير الميزانيات الحكومية، دون محاسبة أو رقابة حقيقية سواء لاحقة أو سابقة.
غياب الشفافية والمشاركة المجتمعية
شهد إعداد الميزانيات خلال العقود الثلاثة الماضية، المزيد من الإجراءات اللازمة لإتاحة الشفافية حول الميزانيات الحكومية، ويصدر تقرير دولي حول شفافية الموازنات المفتوحة، من خلال استبيان يتضمن ثلاثة بنود رئيسة هي مشاركة الجمهور في الموازنة، والرقابة عليها، ومدى اتسامها بالشفافية، وحسب تقرير 2023 عن هذا الاستبيان، فإن عددا محدودا من الدول العربية هو الذي تشمله أعمال هذا الاستبيان.
ومما يدلّ على غياب الشفافية في ميزانيات الدول العربية، مرور العالم ببعض الأزمات ذات الطابع الاقتصادي والاجتماعي، مثل الأزمة المالية فجائحة كورونا وارتفاع معدلات التضخم وقفزات أسعار الغذاء، ولم نجد حكومة بدولة عربية، عرضت على شعبها كيف تعاملت مع هذه الأزمات، وكم كلفتها ماليًا، ومن أين دبرت التمويل اللازمة لمواجهة هذه الأزمات.
أما عن مشاركة الأفراد أو مجتمع الأعمال (العام والخاص) أو منظمات المجتمع المدني، فلا يلاحظ أن ثمة درجة من المشاركة الفاعلة قد تحققت خلال السنوات الماضية، يمكن من خلالها أن يتوفر للأفراد أو مجتمع الأعمال أو المجتمع المدني، البيانات الصحيحة عن الميزانية، تدبيرًا وإنفاقًا، أو التعامل معهم على أنهم كانوا شركاء بالفعل في وضع خطط التنمية، التي من الواجب أن تأتي في إطارها الميزانيات للدول العربية.
غياب الديمقراطية أساس المشكلة المالية
الواقع السياسي في الدول العربية، مضطرب، وقد لا يسمح بالمساءلة والرقابة، وبالتالي فإن تمرير الميزانيات دون محاسبة هو من سمات الديكتاتورية في الدول العربية.
أما في التجربة الأميركية الأخيرة فقد أعلنت الحكومة عن حجم الإنفاق على المؤسسات الدفاعية، وكذلك المؤسسات المدنية، وبيان المؤسسات التي سيتم الاستغناء بشكل جزئي أو كلي عن موظفيها، أو حتى إغلاقها.
وكانت نفقات الرعاية الاجتماعية، وبخاصة تلك المرتبطة بالرعاية الصحية، من أهم نقاط الخلاف بين الحزبين الجمهوري والديمقراطي، حول اعتماد البرنامج المالي للحكومة الأميركية.
فهل يشغل الحكومات أو البرلمانات العربية أمر الرعاية الاجتماعية لشعوبها؟ من تعليم وصحة وبنية أساسية أو معرفية؟
إذا فتح هذا الباب، وكانت هناك شفافية وديمقراطية حقيقية في الدول العربية، فإنه سيعاد النظر بشكل كامل في هيكل الموازنات العربية القائمة.
ومن الملاحظات التي يتم رصدها عن مناقشة أمر الميزانيات العربية، ما يطلق عليه بالنفقات الحتمية، من أجور ومكافآت، أو مصروفات تسيير عمل الحكومة، أو الدعم، أو خدمة الديون، وكأنها نصوص مقدسة، وبالتالي على الشعب والبرلمان، أن يقبل الميزانية المعروضة أو يرفضها.
أما أمر إصلاح المؤسسات الحكومية، وترشيد التوظيف فيها، أو الإنفاق عليها، فمستبعد لدى الحكومات العربية، ولا يخفى على المتابع للشأن العربي، ما يعرف بمخصصات الجهات السيادية، التي تعرض ميزانياتها فيما يعرف بالسطر الواحد، وفي بعض الدول لا تناقش من الأصل، باعتبارها من متطلبات الأمن القومي لهذه الدول.







