
من المفارقات التي نعيشها أن كثيرًا ممن يرفعون شعار حرية التعبير لا يحتملون اختلافًا في الرأي، فإذا ناقشت فكرةً أو قيّمت تجربةً، تحوّل النقاش من تحليل للمحتوى إلى هجوم على القائل، وكأن النقد خيانة، وكأن الخلاف حول المفاهيم لا بد أن ينقلب إلى خلاف حول الأشخاص.
المثال الأحدث هو ما تعرض له السيد عمرو موسى، وزير الخارجية الأسبق، من هجوم شديد من بعض الناصريين، لمجرد أنه وصف الرئيس جمال عبد الناصر بأنه كان “ديكتاتورًا”.
لم يسأل هؤلاء الناقدون: ما معنى الديكتاتورية؟ وهل ينطبق تعريفها على حكم ناصر أم لا؟ بل تحولت القضية إلى دفاع أعمى عن شخص الزعيم، وكأن الزعيم فوق النقد، وكأن المفاهيم السياسية كلمات مرنة تُطوى وتُمدد حسب الهوى.
ما هي الديكتاتورية؟
في العلوم السياسية، الديكتاتورية هي نظام حكم يتركز فيه القرار والسلطة في يد فرد أو مجموعة صغيرة، دون وجود آليات حقيقية للرقابة أو المشاركة الشعبية. من أبرز سمات الديكتاتورية هو
غياب الديمقراطية التعددية فلا مجال لتداول السلطة عبر انتخابات حرة.
السمة الثانية هي السيطرة على الإعلام: بحيث يصبح صوت السلطة هو الصوت الوحيد و حل أو إضعاف الأحزاب واحتكار الفضاء السياسي.
واحده من سمات الديكتاتورية ، تقييد الحريات العامة: كالصحافة والتجمع والتعبير والملاحقة الأمنية للمعارضين: بالاعتقال أو النفي أو التشويه.
فهل ينطبق هذا على عهد عبد الناصر؟
لننظر بلا تحيز إلى ما حدث في مصر في الخمسينيات والستينيات:
جرى حل الأحزاب السياسية كافة بعد ثورة يوليو 1952، واستُبدل بها “الاتحاد الاشتراكي”، وهو تنظيم واحد تحت مظلة الدولة.
الإعلام كان صوتًا واحدًا، موجَّهًا من الدولة، يردد خطاب الزعيم وسياسات النظام.
الانتخابات لم تكن تعددية بالمعنى الحقيقي، بل تحولت إلى الاستفتاءات بنعم أو لا.
المعارضون السياسيون، سواء من الرأسمالية السابقة أو الإخوان المسلمين أو الشيوعيين أو حتى بعض رفاق يوليو أنفسهم، تعرضوا للاعتقال والسجن والتشويه الإعلامي .
كل مقاليد القرار السياسي والاقتصادي كانت تتركز في يد الرئيس ومجموعة ضيقة من المقربين.
هذه ملامح، حين نقارنها بالتعريف السياسي، نجد أنها تجسد صورة واضحة من صور الحكم الديكتاتوري.
المفارقة الكبرى كانت تلازم الديكتاتورية والكاريزما الشخصية لأن عبد الناصر، رغم ديكتاتورية نظامه، امتلك كاريزما شخصية طاغية، وحضورًا شعبيًا لم تعرفه مصر من قبل ولا من بعد.
فقد اجتمع في شخصه الزعيم الملهم للجماهير، الذي يخاطب وجدانها القومي والوطني، مع الحاكم المطلق الذي يحتكر القرار.
هذه المعادلة هي ما جعلت تجربته أكثر تعقيدًا: نظام ديكتاتوري بملامح واضحة، لكنه محمول على أمواج من الشعبية الجارفة.
ولكي نفهم خصوصية التجربة المصرية، يمكن أن نقارنها بتجارب ديكتاتورية أخرى مثل فرانكو في إسبانيا (1939–1975) الذي مثل حكمًا عسكريًا قمعيًا شديد المركزية، اعتمد على التحالف مع الكنيسة، وفرض صمتًا سياسيًا مطبقًا لعقود.
لكن شخصيته لم تكن ملهمة جماهيريًا مثل عبد الناصر، بل كانت سلطوية باردة.
و بينوشيه في تشيلي (1973–1990) الذي استولى على الحكم بانقلاب دموي، قمع المعارضة بوحشية، وقتل واعتقل عشرات الآلاف. ورغم تحقيق بعض الاستقرار الاقتصادي، فإن نظامه ارتبط دائمًا بالرعب والخوف لا بالكاريزما الشعبية.
عبد الناصر، بخلاف هاتين التجربتين، جمع بين الديكتاتورية السياسية والمحبة الشعبية.
لقد استند حكمه إلى خطاب قومي جامع (الوحدة العربية، مقاومة الاستعمار، العدالة الاجتماعية)، ما جعل الجماهير تتماهى مع سلطته وتقبل بها، بل وتراها تعبيرًا عن أحلامها.
وهنا يكمن الفارق.
الديكتاتورية في مصر الناصرية لم تكن مجرد قمع فقط ، بل كانت مزيجًا من السلطة المطلقة والقمع والحلم الجماعي.
وصف نظام حكم بأنه ديكتاتوري لا يعني نفي الإنجازات الاقتصادية أو الاجتماعية أو الوطنية التي قد تكون قد تحققت في عهده ومرتبطة بزمانها، كما لا يعني سبّ الشخص أو الانتقاص من مكانته التاريخية.
لكنه توصيف علمي لمفهوم سياسي. فعبد الناصر نفسه كان يدرك أنه يحكم حكم الفرد، وكان يعلن أنه “مسؤول عن كل شيء”.
لقد انتهي حكم عبد الناصر بهزيمة ساحقة في ٦٧ وفقدان سيناء وتهجير أهل القناة ومحاكمة قادة الجيش ثم وفاته.
الديكتاتورية لها فوائد أحيانا ،من وجهة نظري ،ولكنها تتحول اليً استبداد ما لم يكن هناك تداول للسلطة يحد من تحول الحاكم إلي شبه نبي لا يمكن المساس به و يزيل طبقة من المنتفعين تتكون حوله لا يمكن التخلص من فسادها إلا بذهابه.
إذا أردنا أن نمارس حرية التعبير بحق، فعلينا أن نناقش الأفكار والمفاهيم، لا أن نُحوّل الخلاف الفكري إلى خصومة شخصية.
فالجدل الصحي لا يقدّس الزعماء، بل يقوّم التجارب ليستفيد منها الحاضر والمستقبل.
أثر الديكتاتورية الناصرية على الأجيال اللاحقة لم يتوقف بل امتدت تجربة الديكتاتورية خارج حدود عهد عبد الناصر، و تركت أثرًا عميقًا على أسلوب الحكم في مصر لعقود تالية.
فقد رسخت ثقافة الحاكم الفرد، وغياب المؤسسات الحقيقية، وسيطرة الدولة على الفضاء السياسي والإعلامي.
حتى بعد رحيل ناصر، ورغم تغيّر السياسات الاقتصادية والانفتاح على الغرب في عهد السادات، أو التوجه إلى الخصخصة في عهد مبارك، ظل جوهر النظام السياسي قائمًا على إرث يوليو: حزب واحد أو حزب مهيمن، او حزب افتراضي مهيمن مع انتخابات شكلية، وصوت إعلامي رسمي يغلب على المشهد.
بذلك يمكن القول إن الديكتاتورية الناصرية لم تكن مجرد تجربة عابرة، بل أصبحت نموذجًا مؤسسًا لطريقة الحكم في مصر والعالم العربي، حيث تكررت نفس الملامح في أنظمة عدة: الزعيم الأوحد، أو الملك الأوحد في حكم وراثي، او الحزب الواحد، و غياب التعددية، وسيطرة الدولة على كل مفاصل الحياة العامة.
أي أمة شرقاً أو غرباً تعيش نفس التجربة بأسماء مختلفة ووسائل متجددة وتحمل نفس فلسفة الحكم الفردي بلا محاسبة ولا حرية تعبير ولا معارضة ولا احترام للدستور وبلا تداول للسلطة هي تحت حكم ديكتاتوري .
مش فاهم زعلانين ليه عندما بنطبق التعريف علي وصف الحال!!!!!







