مقالات وآراء

د. عدنان منصور يكتب : إيران بعد حرب الاثني عشر يوماً

لم تنقطع زياراتي إلى إيران للمشاركة في مؤتمرات دولية تنعقد من آن إلى آخر فيها، منذ أن غادرتها بعدما أمضيت فيها ثماني سنوات كسفير للبنان في الجمهورية الإسلامية الإيرانية، إذ سنحت لي فرصة كبيرة أن أجوب محافظاتها شرقاً وغرباً وشمالاً وجنوباً، وأطّلع ـ بحشرية زائدة ـ على المشاريع، والإنجازات، والتقدّم في مختلف المجالات العلمية، والعسكرية، والثقافية.

والصناعية في هذا البلد العريق، مالئ الدنيا وشاغل الأعداء والمتربّصين به. أثناء تواجدي في إيران منذ أيّام بناء على دعوة رسميّة للمشاركة في المؤتمر الدوليّ الذي حمل عنوان “القانون الدولي تحت وطأة الهجوم والعدوان والدفاع”، وجدت بلداً يتحرّك بكلّ ثقة، وشعباً فخوراً بعنفوانه، ومعتزاً بوطنه وتاريخه، وثقافته دون حدود، جاعلاً وطنه وكرامته فوق كل اعتبار.

شعب لا يلين ولا يرضخ، يتحمّل تبعات أشرس العقوبات والحصار عليه، قلّ ما شهده بلد مثله في العالم كله. رغم كل ذلك، يصبر بعناد وتحدّ كبيرين، لأنه يعرف جيداً حقيقة نفسه، ومدى تمسّكه بوطنه، ويدرك في العمق ما تحضّر له قوى الشر والاستبداد والهيمنة، وما تستهدفه ضدّ بلده للسيطرة عليه، وتحجيمه، والتحكّم بقراره الحر، ونهب ثرواته.

لا شك في أنّ العقوبات كان لها تأثيرها السلبي الكبير على الوضع الاقتصادي والمالي والمعيشي للإيرانيين، إلا أنّ إيران رغم كلّ ذلك، استطاعت أن تمتصّ لحدّ ما وتستوعب هذه العقوبات الشرسة، وتتحمّلها تمهيداً لتقليص أثرها ونتائجها، وتعطيل مفاعيلها، بغية تجاوزها والخروج منها. قد يتصوّر زائر طهران ويظنّ لأول وهلة، أنّ العدوان المشترك الأميركي ـ “الإسرائيلي” على إيران، وبالذات على المنشآت النووية والعسكرية، سيترك آثاره الثقيلة على الأرض، ليزعزع أركان الدولة، ويقوّض النظام، ويحبط عزيمة الشعب الإيراني، وثقته بنظامه السياسي، ويفقده ثقته بنفسه.

لكن عندما تطأ قدما زائر إيران، سيتفاجأ، وسيرى بأمّ عينيه الحياة اليومية بتفاصيلها كيف تسير بشكل طبيعي كالمعتاد، وكما كانت عليه قبل العدوان، وسيرى الشعب أكثر التفافاً وتضامناً مع قادته، وأكثر تحدياً وتصلّباً في وجه سياسات واشنطن وتل أبيب. كلّ شيء في إيران يسير بهدوء، لا شرطياً في عاصمة يتجاوز عدد سكانها 14 مليون نسمة، ولا حواجز عسكرية في الشوارع، ولا فوضى، ولا مخالفات، ولا تعدّ على القانون، نظافة في كل مكان لا يعلوها نظافة، القانون فوق الجميع ويحترمه الجميع.

حركة عمران متواصلة لا تتوقف، ومشاريع بنيوية تحتية ضخمة تنفذ في وقتها المحدد، دولة تعرف ما لها وما عليها، فبعد 46 عاماً من العقوبات والحصار، تصمد إيران، وتتقدّم، وتنجز، وتتحدّى قوى العدوان والتسلّط، تبني وتعزز قدراتها الاقتصادية والعسكرية والعلمية، والبحثية، والمعرفية بخطى واثقة. لا إملاءات عليها تطال سيادتها وكرامتها، ولا قواعد عسكرية على أرضها تذلها وتحتمي بها، تتعامل مع الآخر بصيغة الندّ للندّ، وبما تملي عليها كرامتها وكرامة شعبها وأمتها الإيرانية.

في ختام المؤتمر، ألقى الدكتور كمال خرازي، وزير الخارجيّة الإيرانيّة الأسبق، مستشار السياسة الخارجية للمرشد الأعلى السيد علي الخامنئي، كلمة مطوّلة واضحة أمام المؤتمرين قال فيها: “إنّ إيران لن تستسلم، وهي تدافع عن نفسها. لقد سألوا الإيرانيين الى متى ستستمرون في نهجكم المقاوم، قلنا لهم إننا بنهجنا هذا مستمرّون، وإنّ الإيرانيين عبر أربعة عقود ماضية أنشأوا مجتمعاً قوياً، ولهذا صمدوا. إنّ استراتيجية إيران تهدف إلى صون الاستقلال، ومقاومة الضغوط الغربية.

إيران لن تتخلّى عن استقلالها، ولن تستسلم أبداً، شعارها: نحن نستطيع الدفاع عن أرضنا ومواجهة الأجانب. سلوا القائد السابق للقيادة المركزية في الجيش الأميركي الجنرال كينيت فرانك ماكينزي، ماذا قال عن إيران، أثناء بيان صحافيّ سئل عن إيران فقال: “إيران لديها ثقافة مختلفة، وتاريخ، وشعب لا يمكن حذفها من المنطقة”.

تابع خرازي قائلاً: “إيران بلد عريق لآلاف السنين، ولديها قوة كبيرة، لذا استطاعت أن تبقى. إنّ اعتراف رئيس بلد (ترامب) بقيام عمل عسكريّ مع “إسرائيل”، ضدّ إيران، يُعتبر مسؤولاً مباشراً، ومن حقّ إيران مطالبة أميركا بالتعويض نتيجة الأضرار التي لحقت بنا. لقد شنّت أميركا الهجوم على المنشآت النووية الإيرانية متجاوزة الوكالة الدولية للطاقة الذرية. إيران أكدت أنّها مستعدّة لأيّ حوار، وهو الحوار القائم على مفاهيم الحق والعدل، وليس على المفاوضات التي تريدها أميركا وفق شروطها، ونحن لن نخضع لشروطها. بالمقاومة نواجه المعتدين، وإذا كان “الإسرائيليون” يرتكبون الجرائم، فهذا لا يعني أنّ إرادة الشعوب تمحى بالسلاح.

غزة تحت القصف هذا لا يعني نهاية حماس في فلسطين، أو حزب الله في لبنان، أو الحشد الشعبي في العراق! رسالة نوجّهها لترامب، طالما أنه يعرف أنّ إيران لا تجرّب وأنها قاومت، واستمرّت في برنامجها النوويّ، ولم تردعها القوة. بناء على هذه التجربة، على ترامب أن يأخذ بالاعتبار حقيقة إيران.

عليكم يا ترامب ـ تابع خرازي ـ أن تجلسوا للحوار ليس بشروطكم، وإنما باتخاذ السياسات الملائمة، وعلى الولايات المتحدة أن تثبت عن نياتها السلمية”. قد يتصوّر المتتبّع عن بُعد للشأن الإيراني، من خلفية تتسم بالحقد أو الجهل، أو الكراهية، أو التعصب، أنّ العدوان الأميركي ـ “الإسرائيلي”، قد قصم ظهر إيران، وأنه سيرغمها ويجرّها إلى مفاوضات الأمر الواقع والاستسلام لطغاة العصر، لكن حقيقة الأمور رغم كلّ ما ألحقه العدوان والحصار والعقوبات من أضرار بحق إيران وشعبها، جعلت الإيرانيين أن يكشفوا حقيقة الكاوبوي العالمي، ودوره مع دولة العدوان “الإسرائيلية” وما يحضّرانه لبلدهم، ما جعلهم أكثر وحدة، وأكثر تصميماً وعزماً، وصبراً، وصموداً على مواجهة ثنائي العدوان، ووأد خططهما،

وإذا كانت الولايات المتحدة والغرب معها مصرّين على تجريد إيران من برنامجها النووي، فإنّ إيران عازمة على الاستمرار في تخصيب اليورانيوم، ولن تتخلّى عن حقها القانونيّ بأيّ شكل من الأشكال في هذا المجال.

متى تدرك الولايات المتحدة وقاعدتها في تل أبيب، أنّ إيران ليست كالمحميّات، وليست كجمهوريّات الموز في أميركا اللاتينية التي قبضت واشنطن على أعناقها لعقود طويلة؟! السلام في غربي آسيا وبالذات في مشرقنا العربي لا يمكن له أن يتحقق عن طريق استخدام القوة العسكرية، ولا عن طريق فرض الظلم وممارسة الاستبداد، والعقوبات التعسفية، والعنجهية العمياء، والتدخل السافر المدمّر في شؤون الدول الحرّة الذي تديره الإمبراطورية العظمى، ورئيسها الهائج المائج على الساحة العالميّة.

كل حروب “إسرائيل” منذ عام 1948 وحتى اليوم، لم ولن توفر لها الأمن، ولا السلام، وإْن وقف إلى جانبها كلّ طغاة العالم، طالما هناك قضية شعب وحقوقه المشروعة، لا يمكن اختزالها ولا تسقط مع مرور الزمن، لتبقى ناراً تحت الرماد تثور وتشتعل من جديد وكلما حركها العدوان.

المزيد

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى