
“أمة تتألم ولا تموت”
تمر الأمة الإسلامية بمرحلةٍ من أدق مراحلها التاريخية، تتشابك فيها عوامل الضعف الداخلي مع حلقات التآمر الخارجي، حتى أصبحت الصورة كأنها حلقة مفرغة من الانكسارات، والانقسامات، وفقدان البوصلة.
ومع ذلك، فإنّ هذه الأمة– التي وعدها الله بالاستخلاف والتمكين– لم تمت، ولن تموت. فكل موجة ضعفٍ مرت بها كانت تمهيدًا لنهضةٍ جديدة، وكل انكسارٍ كان بداية وعيٍ وبعثٍ جديد.
قال الله تعالى: ﴿وَتِلْكَ الْأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ﴾ (آل عمران: 140)
“الضعف الداخلي.. حين تسقط النفوس قبل أن تسقط الدول”
إنّ بداية السقوط لا تكون من الخارج، وإنما من الداخل، حين يضعف الإيمان وتُطفأ شعلة الرسالة في القلوب.
قال الله تعالى: ﴿إِنَّ اللَّهَ لَا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّىٰ يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ﴾ (الرعد: 11).
لقد ابتُليت الأمة بأمراضٍ داخلية أخطر من السيوف المسلّطة عليها:
ضعف الوعي والإيمان: انفصل الدين عن الحياة، وتحول إلى طقوسٍ دون روح، وتلاشت فكرة الإسلام كمنهج حضاري شامل.
الفرقة والتنازع: تفرقت الحركات الإسلامية والوطنية، وتنازعت الشعوب حول الرايات والمذاهب، ففقدت الأمة وحدتها الجامعة.
الاستبداد السياسي: استأثرت فئة قليلة بالسلطة والثروة، وأُقصيت الشعوب عن القرار، فغابت الشورى، وماتت الحرية التي هي روح الأمة.
الفساد الاقتصادي والتبعية: أصبحت موارد الأمة تُدار من الخارج، وقراراتها الاقتصادية تُرهن لصندوق النقد والبنوك الدولية، حتى صار الاستقلال شعارًا لا واقعًا.
انهيار منظومة القيم: تسلل الإعلام الفاسد والغزو الثقافي إلى العقول، فبدّل الأولويات، وقدّم التافهين رموزًا، وأخفى العلماء والمصلحين خلف الجدران.
هذا الضعف الداخلي هو الذي جعل الأمة جسدًا بلا روح، وعقيدةً بلا فعل، وجموعًا بلا مشروع.
“التآمر الخارجي.. مشروع استعماري متجدد”
حين يضعف الداخل، يتجرأ الخارج. منذ سقوط الخلافة العثمانية، لم تتوقف القوى الغربية– ومعها الصهيونية العالمية– عن السعي لإبقاء الأمة في دائرة العجز، مستخدمةً أدواتٍ جديدةٍ في كل مرحلة:
التقسيم الجغرافي والسياسي:
قسموا جسد الأمة إلى أكثر من خمسين كيانًا، لكلٍ منها علمٌ ونشيد، لكن القرار الحقيقي في العواصم الأجنبية.
الاختراق الثقافي والإعلامي: غيّروا مناهج التعليم، وفرضوا ثقافةً علمانيةً تمجّد الغرب وتزدري تراث الأمة.
الهيمنة الاقتصادية: جعلوا الدول الإسلامية أسواقًا لمنتجاتهم ومصادر لمواردهم، تابعةً للنظام المالي العالمي.
التحالف مع أنظمة محلية: دعموها سياسيًا واقتصاديًا مقابل ضمان ولائها، ومنعها أي نهضة إسلامية حقيقية.
تشويه الإسلام المقاوم: حين فشلت محاولات المسخ، جاء دور الشيطنة، فصُوِّر الإسلام الحركي والإصلاح السياسي كخطرٍ أمني يجب استئصاله.
خلق الصراعات الداخلية: غذّوا الطائفية، وأشعلوا الحروب الأهلية، وحوّلوا الأمة إلى كياناتٍ متناحرةٍ تُنهك نفسها بينما العدو يستولي على الأرض والثروات.
إنّ “الشرق الأوسط الجديد” ليس مشروعًا اقتصاديًا أو سياسيًا فحسب، بل هو خطة صهيونية غربية لإعادة تشكيل وعي الأمة بحيث تصبح تابعةً في فكرها، مستهلكةً في اقتصادها، خاضعةً في قرارها.
“الواقع الراهن.. بين الهزيمة والتحدي”
الأمة اليوم لا تعاني فقط من الاحتلال العسكري أو الاقتصادي، بل من الاحتلال الفكري والنفسي.
ففي الوقت الذي تستعبد فيه الأنظمة شعوبها باسم “الاستقرار”، تُستعبد العقول باسم “الحداثة” و“الواقعية”.
تُغلق السجون على الأحرار، وتُفتح الشاشات أمام دعاة الشهوات والضلال، ويُغتال العلماء والمفكرون بينما يُحتفى بالراقصين واللاعبين.
لكن في المقابل، هناك بوادر نهضةٍ جديدة تتشكل بصمتٍ وثبات:
وعيٌ شعبيٌّ متزايد بخطورة التبعية والاستبداد.
جيلٌ جديد من الشباب يبحث عن معنى رسالي لحياته.
حركات مقاومة في فلسطين ولبنان واليمن تُعيد للأمة مفهوم العزة والإباء.
صحوةٌ فكريةٌ تدعو إلى العودة للإسلام الشامل كمنهجٍ للحياة، لا كطقوسٍ معزولة.
إن الأمة– رغم ما تمر به– تملك أعظم رصيدٍ حضاري: القرآن، والسنة، والتاريخ، واللغة، والإنسان المسلم الذي لم يُطفئ الإيمان جذوته رغم كل المحن.
“الرؤية الشرعية للنهوض والتحرر”
النهضة لا تكون بقراراتٍ فوقية أو بخطاباتٍ سياسية، بل تبدأ من فهم السنن الربانية في التغيير.
قال تعالى: ﴿إِن تَنصُرُوا اللَّهَ يَنصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ﴾( محمد:7 ).
الرؤية الشرعية للنهوض تقوم على خمسة أركان:
1- إحياء الإيمان والنية الصادقة: لأن التغيير يبدأ من القلوب، فلا نهضة بلا توبة، ولا إصلاح بلا إخلاص.
2- بناء الوعي الجمعي: عبر التربية والتعليم والإعلام الواعي الذي يكشف الحقائق ويواجه التضليل.
3- تكوين الإنسان الرسالي: القادر على الجمع بين العبادة والعمل، بين الدعوة والسياسة، بين الإيمان والإتقان.
4- تحرير الإرادة السياسية والاقتصادية: من هيمنة الخارج ومنظومة الاستبداد الداخلي، لتصبح قرارات الأمة نابعةً من مصالحها العليا.
5- توحيد الجهود على مشروعٍ جامع: يجمع القوى الإسلامية والوطنية والمجتمعية على هدفٍ واحدٍ هو استعادة الأمة لسيادتها ودورها الرسالي في العالم.
هذا هو معنى قوله تعالى: ﴿وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلَا تَفَرَّقُوا﴾ (آل عمران: 103)
“من الانكسار إلى الاستنهاض.. طريق الأمل والعمل”
كل نكبةٍ تمر بها الأمة تحمل في داخلها بذور الصحوة.
من رحم الهزيمة تولد الإرادة، ومن عمق الألم تُولد الرسالة.
إنّ الأمة التي أنجبت صلاح الدين، وعمر المختار، وحسن البنا، وأحمد ياسين، قادرةٌ على أن تنجب من جديد رجالًا ونساءً يحملون راية التحرير والبناء.
طريق النهوض يبدأ بخطواتٍ عملية:
العودة إلى المسجد والمدرسة والميدان كمراكز لبناء الوعي والإيمان.
دعم المشروعات الإصلاحية في الفكر والاقتصاد والإعلام والتربية.
تعزيز ثقافة العمل الجماعي والرسالي بدل الانعزال والانقسام.
ترسيخ مفهوم المسؤولية الفردية في نصرة الدين والأمة، فكل مسلمٍ مسؤولٌ في موقعه.
الوقوف مع قضايا الأمة الكبرى، وعلى رأسها تحرير فلسطين، لأنها الميزان الحقيقي لصدق الأمة وعزتها.
“نداء إلى الأمة”
إن ضعف الداخل هو الذي فتح أبواب التآمر الخارجي، وإن استعادة الإيمان والوعي والعمل هو الطريق الوحيد لعودة العزة والكرامة.
قال الله تعالى: ﴿قُلْ هُوَ مِنْ عِندِ أَنفُسِكُمْ﴾ (آل عمران: 165).
فلنبدأ من الداخل: من إصلاح أنفسنا، وتربية أبنائنا، وبناء مؤسساتنا، وإحياء رسالة الإسلام في حياتنا العملية.
ولنوقن أن وعد الله بالنصر والتمكين لا يتحقق بالشعارات، بل بالإيمان الواعي والعمل الجماعي.
“إن الله لا يغير ما بنا من ضعفٍ حتى نغيّر ما بأنفسنا من تهاون، ولا ينصر أمةً تركت رسالتها، ولا يرفع من لم يرفع همّته.”
الأمة اليوم أمام مفترق طريقين:
طريق الذل والتبعية، وهو استمرار الضعف والفرقة.
وطريق الوعي والرسالة، وهو طريق العودة إلى الله والعمل للنهضة والتحرير.
ولن يكون الفجر بعيدًا، فليل الأمة مهما طال لا بدّ أن ينجلي، لأنّ في قلوب المؤمنين وعدًا لا ينكسر:
﴿إِنَّ الْأَرْضَ لِلَّهِ يُورِثُهَا مَن يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ﴾ (الأعراف: 128)







