شادي العدل يكتب: نحو الأمية
في زمنٍ مضى، كان هناك مشروع وطني اسمه “محو الأمية”، لكن الناس البسطاء، الذين كان المشروع يهدف لمساعدتهم، كانوا يطلقون عليه اسم “نحو الأمية”، لعدم إدراكهم معنى كلمة “محو” التي تعني المسح والإزالة، فهموا منها – ببساطة فطرتهم – أنها تعني “الاتجاه نحو” الأمية، هذه اللقطة الظريفة تحمل في طياتها عمقاً تراجيدياً يلخص واقعنا السياسي اليوم.
فكما أخطأ أولئك البسطاء في فهم المصطلح، يخطئ اليوم من يديرون مشهدنا السياسي في فهم معنى الوطن والتعددية، لقد تحول مشروع “محو الأمية السياسية” إلى عملية منهجية “نحو الأمية السياسية”، نُجهض فيها أي إمكانية لولادة وعي نقدي، وندفع بالجميع نحو التماثل والانصياع.
والدليل الأبلغ على هذه “الأمية السياسية” المُنتَجة هو ذلك المشهد البائس للقائمة الوطنية “من أجل مصر”، في دعايتها الصامتة، ظهر المرشحون وكأنهم جوقة عسكرية، بدل سوداء موحدة وأقمصة بيضاء للرجال والنساء، بلا ألوان، بلا بصمات شخصية، بلا روح، كأنما اللاوعي الجمعي لمن صمم هذا المشهد يقول “هذه بلد زي واحد، وصوت واحد، واتجاه واحد”.
لم يدرك في عقولهم المحدودة أن المرأة يمكنها ارتداء فستان يليق بأنوثتها، أو أن الرجل يمكنه اختيار ألوان أخرى لبدلته بدلاً من الأسود القاتم وكذلك ربطة عنق تعبر عن شخصيته، لو كان هناك ذرة إبداع، لاقترحوا ألوان أخرى بدلاً من ربطة حمراء للرجال وطرحة حمراء للمحجبات كرمز للوحدة في التنوع، لا التوحيد في الإكراه، لكن العقل الأمني لا يفهم إلا لغة التوحيد القسري، والتماثل الإجباري.
فمشروع “نحو الأمية” السياسية يعني تحويل المواطن من كائن مفكر ناقد إلى مجرد رقم في استفتاء، أو صوت في صندوق اقتراع مغلق، هي عملية قتل منهجي للتنوع، وتدجين للاختلاف، وتجهيل متعمد للأمة عن حقائق الأمور.
في هذا المشهد، لم تعد الأمية مجرد عدم معرفة القراءة والكتابة، بل هي عدم القدرة على التفكير النقدي، والعجز عن التعبير عن الرأي المخالف، والخوف من الاختلاف، لقد أصبحنا أمة “تتجه نحو الأمية” بخطى ثابتة، بينما يظن من يقودون هذه العملية أنهم “يمحون” أمية لم تكن موجودة بهذا الشكل الكارثي من قبل.
الفرق بين المشروعين جوهري “محو الأمية” كان يحمل رسالة تحرير العقول، بينما “نحو الأمية” السياسية يحمل رسالة استعباد العقول، الأول كان يهدف لتمكين الناس، والثاني يهدف لتجهيلهم سياسياً، الأول كان يستثمر في الإنسان، والثاني يستثمر في بقاء النظام.
في النهاية، السؤال الذي يفرض نفسه، من هو الأمي الحقيقي؟ ذلك المواطن البسيط الذي أخطأ في فهم كلمة “محو” لكنه احتفظ بفطرته السليمة، أم أولئك الذين يديرون مشهداً سياسياً بأكمله وكأنهم يقرأون من كتاب واحد، ويرتدون زياً واحداً، ويفكرون بطريقة واحدة؟
“نحو الأمية” هو المشروع الحقيقي الجاري في وطننا، والنتائج ستكون أكثر كارثية من أي أمية أبجدية، لأن أمة لا تقرأ تبقى متخلفة، لكن أمة لا تفكر تموت، والموت الذي نخشاه ليس موت الأجساد، بل موت العقول واغتيال الضمائر.







