مصر

معصوم مرزوق يكتب: تحديات اليسار المصري

هناك أهمية للنظر في الأوضاع الراهنة للقوي اليسارية المختلفة في مصر ، بإعتبارها بحق هي الحاملة للأفكار التقدمية  ، يبدو أن هناك  انحسارا واضحا للأفكار المحورية التي غلبت بها المبادئ الإشتراكية في الخمسينيات والستينيات من القرن الماضي ، وقد أسهم في ذلك أسباب متعددة بعضها خارجي وبعضها داخلي بنيوي ( Structural )

أما الأسباب الداخلية فهي تتعلق في الأساس بغيبة وضعف التنظيمات اليسارية التي نشأت في ظل أوضاع إستبدادية  ، وكانت مستهدفة بواسطة أنظمة الحكم القمعية ، فضلاً عن أسلوب العمل النخبوي في أغلب هذه التنظيمات ، والإكتفاء بالجهد النظري المنعزل عن واقعه الإجتماعي .. 

أما الأسباب الخارجية فيمكن تلخيصها في التدخل المستمر لقوي الرأسمالية العالمية في شئون دول المنطقة بوجه عام ، وعملها الدؤوب لإضعاف وخلخلة القوي اليسارية ، بوسائل متعددة ، كما أن انهيار الإتحاد السوفييتي ومعه الكتلة الشرقية بوجه عام أدي إلي فقدان اليسار الثقة في نفسه ، فضلاً عن أن مصداقيته الجماهيرية قد تضاءلت إلي حد كبير . 

كان اليسار المصري يتحرك عبر أجنحة من أقصي اليسار متمثلاً في الحزب الشيوعي المصري ، والإشتراكيين الثوريين ، مروراً بأحزاب يسار الوسط مثل حزب التجمع والعربي الناصري والكرامة والتحالف الشعبي والتيار الشعبي ، وأحزاب تمثل يمين الوسط مثل الحزب الإجتماعي الديمقراطي وحزب الدستور .. 

إلا أن كل هذه الأحزاب نشأت في ظروف غير مواتية لنموها نمواً طبيعياً ، فإما أنها نشأت في ظل دولة بوليسية قمعية حددت حركتها ، وإما أنها نشأت في ظل إضطرابات وعدم استقرار ، وبالمحصلة لم تستند إلي بناء حزبي هرمي من القاعدة إلي القمة .

أحزاب اليسار بوجه عام تتبني قضية العدالة الإجتماعية ، وتؤمن بضرورة وجود الدولة بشكل مؤثر في النشاط الإقتصادي حماية للطبقات المعدمة والأشد فقراً ، وبعض هذه الأحزاب تتماشي مع فكرة الإدارة ذات الرأسين ، أي تلك التي تؤمن سياسياً وإجتماعياً بمبادئ العدالة الإجتماعية ، لكنها تتحرك في المجال الإقتصادي بما يمكن أن نطلق عليه ” إقتصاديات السوق الموجه ” ، أو تلك السياسة الإقتصادية التي تضمن حرية إنتقال الأموال والأفراد وحرية الملكية والنشاط ، ولكنها تضع من الشروط والمحددات ما يضمن عدم نشوء ما يسمي ” الرأسمالية المتوحشة ” .

اليسار العربي والمصري يواجه تحديات هائلة ، أهمها في عملية البناء الثقافي والوعي الجماهيري ، فمن الملاحظ الإنعزال شبه التام بين حركات اليسار المختلفة وبين قواعدها الشعبية ، وعدم توافر الإرادة الصلبة للتحرك بين الجماهير ، ولا شك أن نظم الحكم القمعية تمارس إجراءات عنيفة ضد هذه الحركات ، إلا أنها ينبغي أن تطور من أساليب العمل ، وأن تستغل الهامش المتاح لتحركها بكفاءة .

أن اليسار المصري والعربي يعتنق في مجمله البعد القومي العربي ، وتمثل القضية الفلسطينية هماً مشتركاً وتحدياً مستمراً ، لأن الحركة الصهيونية بالتعريف هي حركة عنصرية توسعية تمثل رأس الحربة للنظام الرأسمالي الدولي وتخدم أهدافه في منطقة الشرق الأوسط ، ولذلك فأن التناقض مع هذه الحركة هو تناقض رئيسي لن تنجح في تخفيفه إتفاقات السلام المرحلية التي أبرمتها إسرائيل مع مصر والأردن ومنظمة التحرير الفلسطينية ، ولا يزال اليسار العربي يعاير علاقاته مع قوي اليسار الدولية من منظور رؤية هذه القوي الدولية لطبيعة الصراع في المنطقة.

ومن المحقق أن الأوضاع التي استجدت في الشرق الأوسط بعد ثورات الربيع خلال الأعوام الأخيرة ، بل وقبل ذلك بعد الغزو الأمريكي للعراق ، فأن تلك الأوضاع تكشف عن علاقات صراع جدلية كانت كامنة ، ويراها اليسار العربي من منظور طبقي كإحدي نتائج الخلل في علاقات الإنتاج ، إلا أن هذه الجدلية لا يمكن الأخذ بها بشكل مطلق ، لأن هناك خطوط تماس عرقية ومذهبية ودينية تسبق وتختلط وتؤثر علي ذلك المنظور التقليدي .

ولا شك أن بعض عمليات النقد الذاتي التي مارستها قوي اليسار في نهايات القرن الماضي ، قد أسفرت عن استنتاجات عديدة ، أبرزها في تقديري هو إعادة النظر في علاقات الملكية ، والتخفيف من غلواء وحدية الموقف من الملكية الخاصة ، بل وإعادة النظر في جدوي وأهمية الإستثمارات التمويلية الأجنبية لتنشيط الإقتصاد ، وإمكانية المزج بين ” إقتصاديات السوق ” و ” إدارة الدولة ” فيما يطلق عليه ” إقتصاد السوق الموجه” . 

أن مصر تتطلع وتنتظر من أحزابها التقدمية أن تنهض كي توقف علي الأقل حركة الإرتداد المتسارعة التي أوشكت أن تعيد المجتمع إلي القرون الوسطي .

المزيد

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى