
شكرٌ واجب للمجلس العربي، برئاسة الدكتور المنصف المرزوقي، على الجهد النبيل الذي أحيا الملف السوداني مؤخرًا بسلسلة ورش وتحليلات عميقة، كان آخرها هذا الأسبوع في إسطنبول. هذا الجهد ليس ترفًا سياسيًا، بل محاولة صادقة لإنقاذ وطنٍ يقف على حافة الفناء، وشعبٍ يحتاج لمن يسمع صرخته قبل فوات الأوان. المجلس العربي
السودان اليوم وطن يمشي وحيدًا في ليلٍ دامس. ثلاثون شهرًا من الحرب الطاحنة، التي بدأت بصراع نفوذ بين عبد الفتاح البرهان ومحمد حمدان داغلو (حميدتي)، ثم تحولت إلى إعصار دمويّ اجتاح وسط البلاد وغربها، تاركًا وراءه أكثر من 150 ألف قتيل، وأكثر من 12 مليون مشرّد. ولا تزال الحرب تزداد شراسة يومًا بعد يوم، فيما تتساقط المدن كما تتساقط العواصم القديمة حين يتركها العالم لقدرها.
أسباب الحرب ليست جديدة؛ فقد انطلقت شرارتها يوم انهار التحالف المؤقت بين البرهان وحميدتي في أبريل 2023، بعد خلافٍ عميق حول دمج قوات الدعم السريع — الميليشيا التي نشأت من رحم الجنجويد — في الجيش السوداني. كانت الخلافات حول الصلاحيات والولاءات مجرّد غطاء لصراعٍ أعمق على الحكم والنفوذ، صراعٍ يعود جذره إلى سنوات ما بعد إسقاط نظام عمر البشير في 2019، حين فشلت الشراكة بين العسكر والقوى المدنية في بناء دولة انتقالية تضمن السلام.
حميدتي، الذي برز اسمه منذ جرائم الجنجويد في دارفور عام 2003، يقود اليوم تحالفًا قبليًا عربيًا واسعًا، يضم قبائل رحّل من دارفور وشمال تشاد وجنوب ليبيا، ممن تورطوا تاريخيًا في نزاعات الأراضي والمراعي وتجارة الجمال. ومع انهيار البنية الاقتصادية، أصبح الذهب واليورانيوم والمعادن الثمينة في غرب السودان محركًا جديدًا للصراع، وأداة للسيطرة والتمويل، خاصة مع تورّط أطرافٍ إقليمية في دعم حميدتي مقابل ضمان مصالحها.
أما البرهان، القادم من شمال السودان والمسنود بهياكل الجيش العميقة، فيمثل الدولة المركزية التي حكمت السودان لعقود عبر نفوذ ممتدّ في الشمال والشرق. ومع خروج الخرطوم عن سيطرته وتحوّلها إلى ساحة حرب، باتت المعركة بالنسبة إليه معركة بقاء للنظام القديم، لا مجرد صراعٍ عسكري مع حميدتي.
التطورات الأخيرة كانت مفجعة؛ سقوط مدينة الفاشر — إحدى أكبر مدن دارفور — في يد قوات الدعم السريع في أكتوبر 2025 بعد حصارٍ استمر 18 شهرًا. وصفت الأمم المتحدة المدينة بأنها “مسرح جريمة”، حيث شهدت موجات قتل جماعي وعمليات تطهير عرقي واغتصاب ونهب منظم. ومع سقوط الفاشر، بات الغرب السوداني كله — باستثناء جبل مرّة — تحت سيطرة حميدتي، مع حدود مفتوحة على ليبيا وتشاد وأفريقيا الوسطى وجنوب السودان. هذا الوضع يمنحه قدرات اقتصادية وعسكرية هائلة، قد تُمهّد لتقسيم فعلي للبلاد.
في المقابل، يسيطر الجيش السوداني على الشرق والشمال، فيما تتواصل محاولات استعادة مناطقٍ في كردفان والوسط. وتحدثت تقارير دولية مؤخرًا عن احتمال توسّع المعارك نحو مناطق النفط والمعادن الحيوية، مما قد يشعل موجة جديدة من النزوح والفوضى تمتد عبر القرن الأفريقي ووسطه. #كردفان
المأساة الإنسانية بلغت مستويات كارثية:
• 30 مليون سوداني بحاجة ماسة للغذاء والماء والدواء.
• 13 مليون نازح داخليًا وخارجيًا، فرّ معظمهم إلى تشاد وأفريقيا الوسطى وجنوب السودان.
• مناطق كاملة — مثل الفاشر وكادوقلي — دخلت مرحلة المجاعة القصوى (Phase 5) حيث يموت الأطفال بسبب سوء التغذية قبل أن يصلوا إلى أبواب المساعدات.
• توقّف برامج التطعيم، وانهيار القطاع الصحي، وانتشار الكوليرا والأوبئة.
هذه ليست حربًا… هذا انقراض اجتماعي يجري أمام أعين العالم. كارثة إنسانية
الدور الخارجي معقد وخطير:
الإمارات تُتهم بدعم حميدتي بالسلاح والمال والمرتزقة عبر ليبيا، مقابل النفوذ في مناجم الذهب وممرات البحر الأحمر.
مصر تدعم البرهان انطلاقًا من اعتبارات الأمن القومي ومصالح النيل، وخشيةً من انهيار دولة جارة كانت دومًا عمقًا استراتيجيًا لها.
إسرائيل تمد نفوذها في شرق أفريقيا منذ عقود، بحثًا عن موطئ قدم في البحر الأحمر وممرات الملاحة.
روسيا والصين حاضرتان عبر استثمارات قديمة، لكن الحرب تهدد مصالحهما.
أما الولايات المتحدة فقد أعلنت مؤخرًا — بضغط سعودي — نيتها تكثيف الجهود الدبلوماسية، لكن بلا نتائج ملموسة حتى اليوم.
ومع كل هذه التحالفات، يبقى السودان ساحة اختبار مريرة لخصومات الإقليم، ولطموحات العواصم، ولتجار الحروب. لكن الضحية دائمًا هو الإنسان السوداني:
المرأة التي تحمل أطفالهــا وتقطع الصحراء،
والرجل الذي فقد بيته وأرضه،
والطفل الذي يبحث عن ماء، عن رغيف، عن حضن…
ثم يكمل ليله في وطنٍ يمشي وحيدًا في ظلامٍ بلا قمر.
الإنسان أولًا
ورغم السواد، يظل السودان قادرًا على النهوض؛ فالشعوب التي تسمع البكاء كثيرًا تتعلم الصمود كثيرًا. لكن الإنقاذ لن يأتي وحده؛ بل يحتاج إلى إرادة عربية-African لا تخضع لحسابٍ صغير، وإلى ضغط دولي يضع حدًا للقتلة، وإلى يدٍ تمتد قبل أن تغرق البلاد في ليلٍ أشدّ ظلمة.
إن لم تتحرك الضمائر الآن، فإن الغد سيحمل تقسيمًا جديدًا، وتمددًا للمجاعة، ومقابر تتسع من دارفور إلى كردفان ومن الشمال إلى تخوم الشرق. وعندها لن نبحث عن السودان… بل عن ذاكرة وطنٍ كان هنا ذات يوم.







