
تتحرّك الجغرافيا اللبنانية اليوم كحافة سكين، يلمعها الخطر كلما اقتربت غارة جديدة أو ارتجف الجنوب تحت دويّ صاروخٍ لا يعرف الهدوء. المشهد لا يشبه تبادلًا عابرًا للنيران، بل نذر حرب تتقد تحت الرماد، تنتظر شرارة خاطئة تقلب الشرق من جديد. وسط هذا اللهيب، يطلّ الدور المصري كنسمة عقل في زمن النار، وكجسر هادئ بين ضجيج الرصاص وصمت الانفجار.
لم تكن زيارة اللواء حسن رشاد إلى بيروت مجاملة دبلوماسية ولا فصلًا بروتوكوليًا في كتاب الزيارات الموسمية، بل رسالة مصرية كتبت بحبر الحكمة على ورق من النار. تحرك الرجل بخطوات محسوبة، مدركًا أن المسافة بين كلمة وكارثة — في لبنان تحديدًا — تُقاس بحدود الدم لا بحدود الجغرافيا.
يمتاز الرجل بصفة نادرة في زمن ترتفع فيه الأصوات وتغيب فيه العقول؛ هدوء من يسمع ما لا يُقال، ويرى ما لا يراه أصحاب الضجيج. عمله، ومعه فريق مصري خبير، كان أشبه بجراحة دقيقة في قلب مشهد ملتهب؛ جراحة تُدار بلا ضوضاء، وتخضع لميزان الحكمة لا لاندفاع القوة. والملفات التي تعاطى معها في الإقليم تشهد أن الهدوء — حين يكون مهارة — يتحول إلى أداة للردع والإنقاذ معًا.
تقرأ مصر المشهد بعيون تعرف أن أي اشتعال في جنوب لبنان لن يتوقف عند حدوده، وأن شرارة واحدة قد تفتح أبواب حرب إقليمية يصعب إغلاقها. تدرك أن إسرائيل — في لحظة أزمتها الداخلية — قد تبحث عن انتصار سريع أو جبهة بديلة، وأن لبنان — بتركيبته الدقيقة — قد يتحول إلى نقطة انهيار تُسحب إليها الأطراف كافة. لذلك تعود القاهرة إلى خطوط التماس لا بوصفها وسيطًا فحسب، بل كصمام أمان يمنع سقوط الشرق في حفرة لا قاع لها.
المبادرة المصرية ليست مجرد هدنة عابرة، بل محاولة لإعادة ترتيب المشهد بما يسمح للبنان بالتنفس، ولإسرائيل بالتراجع خطوة، وللمجتمع الدولي بأن يدرك أن الجنوب ليس ساحة اختبار بل خط تماس وجودي. نجاح المبادرة مرهون بضمانات دولية توازي حجم النار المشتعلة، وباستعداد الأطراف للتخلي — ولو مؤقتًا — عن حسابات الثأر والسياسة. وهنا يبرز دور اللواء حسن رشاد: رجل يجيد الإمساك بخيط التوازن بين المتخاصمين دون أن ينقطع الخيط أو يشتعل.
تكرار زيارة اللواء حسن رشاد وفريقه إلى بيروت يصبح ضرورة استراتيجية لا خيارًا. فالشرق الذي يقف اليوم على قدم واحدة لا يحتمل رمية حجر جديدة في مياه الجنوب، والحدود التي ترتجف كل مساء لا تهدأ إلا بحضور عقل قادر على قراءة ما بين الطلقات وما بين الصمت. ومصر — بتاريخها ووزنها وخبرة رجالها — تبقى الأكثر قدرة على إبعاد الجمر عن أقدام المنطقة قبل أن يشتعل المشهد دفعة واحدة.
يبقى الأمل أن تتحول الزيارة المقبلة إلى جسر يمنع الانهيار ويعيد جنوب لبنان من شرفة الحرب إلى غرفة السياسة. فالحروب تبدأ من غفلة، وتتوقف حين يقف العاقل في منتصف الطريق ويقول: ليس الآن… ولا هنا.







