
حين قرر والدي رحمه الله أن يخوض إنتخابات مجلس الأمة في منتصف الستينات من القرن الماضي، قام بطباعة منشورات ملونة تحمل صورته وبعض وعوده الإنتخابية، وأتذكر أنني شاركت بحماس في توزيع هذه المنشورات علي المقاهي والبقالين وعابري الطريق، وشاركني رفاقي الصغار في هذا النشاط السياسي المبكر، ولو أنه بالنسبة لنا كان يشبه نوعاً من التسلية.
ولم أنس أبداً ذلك الرجل الكئيب السمين الذي أخذ مني أحد هذه المنشورات وقرأها وهو يتطلع نحوي بغضب، ثم فجأة قام بتمزيق المنشور وهو يلقي بأجزائه الممزقة في وجهي.. لم أفهم سر غضبه، ولكنني ومعي بعض رفاقي ابتعدنا عنه لمسافة آمنة، ثم أستمتعنا بقذفه بالحجارة والهرولة وهو عاجز عن اللحاق بنا.
لم يوفق والدي في هذه الإنتخابات، وكان رأيه أن السبب هو أن منافسيه كانت لديهم إمكانيات مالية أفضل للإنفاق علي الدعاية الإنتخابية.. بينما ظللت أنا لفترة طويلة من طفولتي أتصور أنني كنت السبب في إخفاقه بسبب حادثة الرجل السمين الذي ظننت آنذاك أنه يمثل السلطة !! ..
وفي أول مهمة دبلوماسية لي في الخارج، خدمت في سفارتنا بالإكوادور، ورغم صغر درجتي الدبلوماسية نافست في إنتخابات الرابطة الدبلوماسية ونجحت في الفوز بمنصب رئيس الرابطة في مواجهة ممثلين لسفارات أخري منها أمريكا والإتحاد السوفييتي وبعض دول أمريكا اللاتينية، وكانت درجاتهم الوظيفية وخبرتهم تتجاوزني بكثير، وكان الأسلوب الذي اعتمدته هو الإتصال المباشر بكل الدبلوماسيين، بعد أن وضعت جدولاً زمنياً مكثفاً لدعوات علي الغذاء والعشاء، وساعدتني بحماس “فيرا مافيرتش” وهي ملحق دبلوماسي شابة من سفارة يوغوسلافيا (كانت لا تزال موحدة)، وكان زوجها العزيز “ليوبيتشا” هو مدير الحملة الإنتخابية …
وكانت مفاجأة في الأوساط الدبلوماسية في إكوادور أن يفوز سكرتير ثالث شاب من سفارة مصر بمنصب رئيس الرابطة الدبلوماسية ..
في نهاية شهر الإنتخابات، اتصل بي مدير فرع سيتي بنك في كيتو كي ينبهني أن رصيدي أوشك علي الإنتهاء بينما لا زالت هناك شيكات علي حسابي.. اكتشفت أنني تفوقت علي باقي المرشحين في عدد دعوات الغذاء والعشاء، وأصبحت رئيساً مفلساً …!!
المال هو وقود أي نشاط بشري، وبدونه لا يمكن تصور أي نجاح كامل، وفيما يتعلق بالإنتخابات علي وجه الخصوص يلعب المال دوراً لا يستهان به في تحديد حظوظ المرشحين، لذلك أصبحت حملات جمع التبرعات للمرشحين تشبه علماً قائماً بذاته في الدول الديمقراطية، وقد عايشت عن قرب الإنتخابات الأمريكية وتعرفت علي وسائل المرشحين المبتكرة في جمع التبرعات، ومن الطريف أنني كنت أتلقي في صندوق بريدي خطابات من مختلف المرشحين علي المستوي القومي والمحلي (مثلي مثل كل جيراني من سكان ناطحة السحاب التي كنت أعيش فيها) ، ومن هذه الخطابات لا أنسي ذلك الخطاب الذي وصلني من أحد المرشحين وكأنني صديقه الحميم، وفيه يعرض لإحدي المشاكل ويطلب بإصرار أن أوافيه برأيي، ولم ينس في النهاية أن يذيل الخطاب بأرق العبارات ومعها رقم تسجيل خاص بي كي أرسله مع شيك التبرع إلي رقم حساب معين في البنك !! …
قصة التبرعات المالية في الإنتخابات الأمريكية طويلة ومعقدة، فهناك ضوابط وقيود قانونية قلما تحترم، ولكن هناك أيضاً – وهو الأهم – دين معلق في رقاب السياسيين عليهم أن يدفعوه، وكلما كان المساهم في الحملة الإنتخابية ذا نصيب أكبر في التمويل، كلما كان تأثيره المفترض في المرشح بعد نجاحه كبير ..
لذلك سمعنا ونسمع عن سلوك بعض النواب الأمريكيين دفاعاً عن بعض المصالح الخاصة، وصل بعضها إلي حد الفساد …
لقد خسر رونالد ريجان الإنتخابات الرئاسية عام 1976 وفاز بها جيرالد فورد، لأن الأخير أو مهندسي حملته نجحوا في الإنفاق بكثافة علي دعاية تركزت حول شعار براق يقول “أنني أشعر بالتفاؤل لأمريكا” ، وفي الواقع كان ذلك هو أسلوب الحزب الديمقراطي المعتاد في إرسال رسائل مبهجة إلي الشعب الأمريكي مثل أغنية : “لقد عادت الأيام السعيدة مرة أخري” ..
لذلك تعلم ريجان أو مهندسي حملته الدرس، وعكفوا علي صياغة دعاية تعتمد علي نشر الشعور بالسعادة والتفاؤل، وهو ما نجحوا فيه عام 1980، وكذلك في عام 1984 من خلال سلسلة من الإعلانات في التليفزيون تحت عنوان: ” أنه الصباح مرة أخري في أمريكا” ,, مجرد عنوان خال من أي مضمون، صور براقة لامعة ترسل شحناتها بغض النظر عن المحتوي.
ومن المعروف أن إدارة ريجان أجادت هذا النوع من الدعاية، فقد كان هناك لقاء في الساعة 8:15 من كل صباح في البيت الأبيض لبحث “ما هو عنوان اليوم” !!، يتعلق بكيفية تلميع الرئيس، وما الذي يجب أن يغطيه الإعلام في ذلك اليوم، وكيف يمكن تسويق الأخبار الطيبة وإخفاء الأخبار السيئة.
ومع تطور التكنولوجيا، استفاد المرشحون من الأدوات الحديثة ومنها مثلاً جهاز القراءة عبر شاشة شفافة (TelePrompTer) بحيث يبدو المرشح وكأنه يرتجل خطابه بينما هو في الواقع يقرأ النص من شاشات مثبتة أمامه، ولا شك أن أثر الإرتجال علي المتلقي يكون أقوي ..
إلا أن الحاسب الآلي أدخل ثورة حقيقية في وسائل تسويق المرشح، فمن خلال قوائم البريد المتاحة (والتي يمكن شراؤها أيضاً) يمكن للمرشح أن يرسل مئات الآلاف من الرسائل في وقت ضئيل للغاية، بل ويمكن ببعض الجهد أن يخاطب كل ناخب وفقاً لخصائصه ومتطلباته، فيمكن إضافة سطرين عن قضايا المرأة إذا كان الخطاب موجهاً إلي امرأة، أو سطرين عن قانون العمل إذا كان موجهاً لعامل .. وهكذا يشعر كل متلقي أن المرشح يخاطبه شخصياً ويهتم بقضاياه ويبدو متعمقاً في تفاصيل تلك القضايا.
ومن أطرف التطبيقات التي أتذكرها من الإنتخابات الأمريكية عام 1988، أن عشرات الآلاف من السيدات أعضاء الحزب الجمهوري قد تلقوا خطابات بخط اليد من حرم المرشح جاك كامب، ولا شك أن كل سيدة تصورت أن حرم المرشح قد فرغت نفسها كي تكتب لها بشكل شخصي وبخط اليد خطاباً شخصياً، ومن المؤكد أن ذلك وحده، حتي بدون قراءة مضمون الخطاب، كان كافياً لدفع تلك السيدات للتصويت لذلك المرشح، لولا أن صحيفة “وول ستريت جورنال” نشرت أن كل هذه الخطابات لم تكن سوي صورة بالكومبيوتر مع طباعة بالليزر بما في ذلك التوقيع بالحبر الأزرق بإسم زوجة المرشح !! .







