
من بغداد إلى غزة، كان الهدف واحدًا: شرق أوسط يُعاد تشكيله على عين القوة الأمريكية، وتُدار تفاصيله بأدوات إسرائيلية وحلفاء إقليميين بينما تُترك الشعوب لتعيش الوهم بين خطاب سيادة جوفاء وحدود مرسومة بمقص المصالح الخارجية تتغيّر واجهات التنفيذ بين نيوليبراليين ومحافظين جدد وواقعيين قوميين لكن جوهر العقيدة يبقى واحدًا “السيطرة على مفاصل الزمن العربي قبل جغرافيته وتحويل المنطقة إلى ساحة إدارة أزمات لا ساحة تحرر.
تقوم “نظرية الترامبية” التي تبناها دونالد ترامب على مفهوم “السلام من خلال القوة” و“أمريكا أولاً” حيث يجري تمديد النفوذ الأمريكي عبر تحالفات مع أنظمة إقليمية منضبطة وإعادة تشكيل أدوار القوى دون احتلال مباشر وتعزيز النفوذ عبر أدوات اقتصادية واستراتيجية جديدة
وفي هذا الإطار تظهر إسرائيل بوصفها الركيزة التنفيذية للمشروع من خلال تحويل غزة إلى مختبر لإدارة الزمن السياسي وإعادة صوغ الواقع الأمني للمنطقة وفي المقابل، تُعامل إيران كأداة فوضى منضبطة: ليس الهدف إسقاطها بل استخدام حضورها لخلق توترات محسوبة تُبرّر بناء شبكة أمن إقليمي يقوده الكيان.
في هذا السياق لا يمكن فهم حرب غزة بوصفها انفجارًا عاطفيًا أو نزوة لرجل مهدد بالسجن أو السقوط السياسي
اختزال مشهد بهذا العمق في “أزمة نتنياهو الشخصية” هو تبسيط مضلل وتمويه لحقيقة أن القطاع يتحول من “ملف أمني” إلى “مختبر إدارة زمنية” تُختبر فيه أدوات التدمير وأدوات الحكم وأدوات إعادة تشكيل وعي المنطقة
غزة في هذه الحرب لم تكن ساحة معركة تقليدية بل ساحة إدارة زمن: الاحتلال يتقدم ويتراجع يعلن وينفي يهدد ثم يصمت. يبدو المشهد فوضويًا على السطح، لكنه في العمق يُدار بإيقاع زمني محسوب: قرارات إخلاء تُحرك الأجساد كقطع شطرنج مساحات تُفرغ وتُعاد تعبئتها معابر تتحول من حدود إلى صمامات ضغط والكهرباء والماء والدواء تُستخدم كلٌّ منها كساعة رملية تتحكم في نبض مجتمع كامل. الاحتلال هنا لا يكتفي بالسيطرة على الأرض بل يتحكم في الإيقاع الزمني لنجد حتى الزمن تم استعماره لنجد أنفسنا تحت “الاستعمار الزمني “
على المستوى العسكري تحولت غزة إلى منصة “إثبات كفاءة” للسلاح الإسرائيلي؛ كل قذيفة هي “دليل قوة أداء كل حي مدمر هو “وثيقة تسويق” وكل جثة تتحول إلى رقم في ملف صفقات الأسلحة حين يصف أحد وزراء نتنياهو الفلسطينيين بأنهم “كالحيوانات” فهذا ليس تصريحًا عابرًا بل تعبير عن عقيدة استعمارية ترى في الفلسطينيين مادة اختبار لا بشر يحق لهم الوجود في هذه الحياة
على المستوى الإنساني والاجتماعي تصاعدت الأزمة الإنسانية بشكل غير مسبوق: نزوح جماعي، انهيار طبي نقص حاد في الغذاء والدواء وكل ذلك يُدار تحت سقف حصار خانق يفرض سياسات زمنية تهدف إلى إنهاك المجتمع نفسيًا وسلوكيًا قبل إنهاكه جسديًا.
و يظل اخطر انواع التدمير هو ما يجري على مستوى الوعي و هو ما يسمى بتدجين الوعى المقاوم
الحرب تُدار في الشاشات كما تُدار على الأرض عناوين تُضلل صور تُنتقى ونقاشات تُختزل في سؤال: “متى يرحل نتنياهو؟”، وهو السؤال الخطأ. سقوط الرجل — إن حدث — لا يغير شيئًا في المنظومة التي أدار الحرب باسمها. هذه ليست حرب رجل بل نظام قوة ليست أزمة حكومة بل مرحلة في مشروع طويل لإعادة تشكيل المنطقة.
على المحور الإقليمي يجري تثبيت “شرق أوسط ترامبي” يقوم على إعادة تعريف أدوار الفاعلين: دول غنية منضبطة سياسيًا وأمنيًا تُمنح دور “النموذج” وأنظمة مستبدة تُكافأ مقابل الاستقرار وكيان صهيوني يُرفع إلى مرتبة المحرك المركزي لإعادة رسم الخرائط.
في هذا التصور لا تعود واشنطن بحاجة إلى احتلال مباشر على طريقة بغداد بل إلى شبكة تطبيع أمني واقتصادي وثقافي تجعل الاحتلال جزءًا من “الواقع الجديد” الذي يُراد للشعوب أن تعتاد عليه.
من هنا تنبع خطورة “تطبيع الوعي” الذي يتجاوز مجرد العلاقات السياسية ليطال المناهج التعليمية، الفنون، والإعلام، مستهدفًا تحويل العدو الوجودي إلى “الشريك الممكن”، مما يمثل الوجه الناعم لمشروع الهيمنة حيث تُخدّر المجتمعات وتُقاد إلى التقسيم والاستسلام.
في المقابل، تُعاني الساحة الإسلامية والعربية حالة انقسام مزدوج فالنخب التي ترفع شعار “المشروع الإسلامي” تسقط في فخ التجزئة القطرية محولة القضية إلى ملفات محلية يسهل حصارها.
أخطر ما في المشهد هو اختزال القضية في شخص نتنياهو وهو تبسيط كارثي يغيّب حقيقة أن النظام الأمريكي–الإسرائيلي–الإقليمي يعمل بمنظومة مرِنة قادرة على التكيّف وإعادة إنتاج نفسها
هذه ليست حرب رجل أو أزمة حكومة بل فصل من مشروع استراتيجي طويل الأمد.
هنا يكمن السؤال: ما هي معالم الاستراتيجية التحررية التي تمتلكها الأمة لمواجهة هذا المشروع؟ كيف يتحول التصدي إلى بناء مشروع حضاري شامل لا ينحصر في مقاومة عسكرية فقط؟ كيف يمكن دمج البعد السياسي، الاقتصادي التربوي والثقافي في رؤية موحدة؟
المقاومة بمعناها الواسع ركن أصيل لتحرير الأوطان لكنها لا تكفي إذا ظلت فعلًا عسكريًا منفصلًا عن مشروع متكامل يحمل أبعادًا متعددة دون مشروع شامل وسقف استراتيجي واضح تستمر الدورة المريرة من مقاومات متفرقة واستنزاف مكرر.
في لحظة مصيرية كهذه، لم تعد القضية مجرد صراع على أرض أو منصب، بل معركة الوعي والروح، معركة الأمة التي وحدها تستطيع أن تصنع التحرر الحقيقي. لا خيار أمامنا إلا الاتحاد وإطلاق مشروع تحرري جامع يتجاوز الحدود والاختلافات لنمنع مشاريع التمزق والهيمنة من أن تبتلع حاضرنا ومستقبلنا.
اليوم، ندعو كل القلوب الواعية كل الجماعات وكل الأفراد المخلصين أن يحملوا الراية بإرادة لا تنكسر وفكر لا يحده زمان أو مكان، ليكون هذا المشروع نهجنا وبوصلة أجيالنا القادمة.لا هزيمة في الصمود ولا نصر إلا بالوحدة ولتكن خطوتنا القادمة بداية لفجر جديد يشرق على أمتنا الحرة.







