مقالات وآراء

المعتصم الكيلاني يكتب : تأخّر العدالة الانتقالية في سورية: لماذا ما زلنا بعيدين عن الحساب؟

لطالما ارتبط الحديث عن العدالة الانتقالية في سورية بوعد — وعد بتقديم الحقيقة، ومحاسبة المتورّطين في الانتهاكات، وجبر ضرر الضحايا — لكن الواقع على الأرض يكشف أن هذا الوعد لا يزال بعيدا عن الترجمة الفعليّة. رغم الإعلان مؤخرًا عن تشكيل اللجنة الوطنية للعدالة الانتقالية في عام 2025، إلا أن مئات الآلاف من الضحايا لم يروا بعد بوادر تحقيق فعلي لهذا المسار. ما الأسباب التي تقف وراء هذا التأخير؟ يمكن تقسيمها إلى جوانب قانونية وسياسية مترابطة، تتراوح بين غياب الهيئات القانونية المناسبة، إلى خضوع العدالة للموازنات السياسية.

الأسباب القانونية: تكوين نظام غير جاهز

غياب إطار دستوري قانوني شامل

لا توجد حتى الآن في سورية تشريعات أو إطار دستوري منظّم للعدالة الانتقالية، مما يعني أن أي خطوة تُتخذ تبقى جزئية، عرضة للتراجع، وغالبًا غير مترابطة بإطار واضح. إن العدالة الانتقالية، بحسب مفاهيمها المتبعة دوليًا، تتطلب تشريعًا خاصًا يحدد اختصاصات وهيكل وآليات: تحقيقات، محاكمات، جبر ضرر، إحقاق الحقيقة، إصلاح مؤسّسات. بدون هذا الإطار تظل الإجراءات مجتزأة وغير مضمونة. 

غياب محاكم أو هيئات قضائية متخصّصة

القضاء السوري الحالي — في شكله التقليدي — غير مجهّز للتعامل مع جرائم الحرب أو جرائم ضد الإنسانية بحسب المعايير الدولية. لا توجد محاكم متخصّصة، ولا إجراءات محاكمات جماعية أو هيئات تحقيق مهيأة لمعالجة الحجم الهائل من الانتهاكات. بالتالي، حتى إصدار القرار بتطبيق العدالة الانتقالية، يبقى التنفيذ عمليا شبه مستحيل. 

غياب تجريم ملائم لجرائم الحرب والجرائم ضد الإنسانية

قانون العقوبات السوري لم يتبنَّ نصوصًا تعكس التجريم الواضح لجرائم الحرب أو الانتهاكات الجسيمة وفق معايير مثل تلك الواردة في نظام روما للمحكمة الجنائية الدولية. هذا الفراغ القانوني يحول دون ملاحقة مرتكبي تلك الجرائم محليًّا. لذا فإن تعديل تشريعي ضروري لإدراج تعريفات واضحة لجرائم الحرب والجرائم ضد الإنسانية، ومنح القضاء صلاحيات لمحاكمتها. 

ضرورة إلغاء مفعول التقادم عن الجرائم الجسيمة

من المبادئ الأساسية في القانون الدولي أن الجرائم الجسيمة — مثل جرائم الحرب والانتهاكات ضد الإنسانية — لا تخضع للتقادم. لكن في القانون السوري القائم، لا تزال بعض الانتهاكات قد تُسقط معها إمكانية الملاحقة بعد سنوات بفعل قوانين التقادم، مما يفتح الباب للإفلات من العقاب. لذا من الضروري تعديل القانون بحيث يُستثنى تلك الجرائم من التقادم.

ضعف استقلالية القضاء وغياب آليات حماية الشهود والأدلة

حتى إذا شُكلت هيئة عدالة انتقالية، القضاء الحالي يفتقر إلى استقلال حقيقي عن السلطتين التنفيذية والأمنية، كما أن آليات لحماية الشهود، تأمين سلامة الضحايا، والحفاظ على الأدلة غير مؤمّنة. هذا يقوض أي محاولة لإقامة محاكمات جدّية وموثوقة. 

غياب عدالة شاملة وغير تمييزية

من أساسيات العدالة الانتقالية أن تعالج كل الانتهاكات، وتمكّن كل الضحايا وذويهم من الوصول إلى العدالة، بغضّ النظر عن هوية الطرف الذي ارتكب الانتهاك (دولة، فصائل مسلحة، جهات محلية…). في سورية، أي إطار ضيق أو انتقائي — يركّز فقط على جرائم النظام السابق — يُضعف مصداقية المسار ويُخاطر بإقصاء فئات من الضحايا، ما يضر بالعدالة والمصالحة على حدّ سواء. 

الأسباب السياسية: بين المصلحة والتوازنات

غياب توافق سياسي ووطني على تعريف العدالة والمساءلة

الأطراف المختلفة في سورية — سواء من السلطة السابقة، قوى ما بعد النزاع، المعارضة، المجتمع المدني — لا تتفق على ما تعنيه العدالة الانتقالية: هل هي محاكمات؟ تعويضات؟ إصلاح مؤسسات؟ إعادة بناء؟ هذا التباين يعيد الملف إلى مربّع التأجيل.
وأي مسار يتجاوز هذا التوافق سيكون ضعيف الشرعية على مستوى القبول الوطني.

تداخل المصالح الدولية والإقليمية والمخاوف من محاسبة جماعية

الملف السوري لا يتعلق فقط بداخل سورية، بل بتوازنات إقليمية ودولية، تدخلات وحلفاء. فتح تحقيق شامل ومساءلة واسعة قد يعني مساءلة جهات تدعم أو دعمت أطرافًا ما، ما يدفع بعض جهات دولية أو إقليمية إلى رفض مسار العدالة. هذا التداخل يجعل المسألة “سياسية” أكثر من كونها قانونية فحسب.

استمرار المقاربة الأمنية على حساب حقوق الضحايا

غالبًا ما تُعالج ملفات ما بعد النزاع من منظور “استقرار” و”أمن”، وليس من منظور “عدالة”، ما يعني أن القضايا التي تمسّ انتهاكات حقوق الإنسان تُؤجل إلى ما بعد الأمن، أو تُستخدم للوسطاء السياسيين، أو تُحتوى ضمن تسويات جزئية.

غياب الإرادة السياسية لفتح ملفات الانتهاكات

إعادة التحقيق في سنوات من القمع والانتهاكات يمثّل طعنة في تركيب السلطة السابقة، وربما في جهات لا تزال لها تأثير. فتح هذه الملفات يعني محاسبة قد تؤدي إلى تغييرات في مراكز النفوذ — وهذا ما يرفضه كثير من الأطراف.

انقسام المجتمع وفقدان الثقة

بعد سنوات من الحرب والانقسام الطائفي والجغرافي والسياسي، المجتمع السوري يعاني انقسامًا واسعًا. بعض الفئات خشية أن العدالة ستكون انتقامية أو مجتزأة. هذا يجعل من الصعوبة بمكان إطلاق مسار عدالة انتقالي شامل دون ضمان مشاركة حقيقية وثقة متبادلة.

واقع من الفوضى الأمنية وانتشار السلاح وتفكّك الدولة

حتى مع وجود إعلان لجنة للعدالة الانتقالية، استمرار وجود جماعات مسلحة، انتشار السلاح، ضعف سيطرة الدولة، كل ذلك يعرقل إقامة مؤسسات عدالة مستقرة وفعّالة.

لماذا العدالة الانتقالية ضرورية الآن أكثر من أي وقت مضى؟

العدالة الانتقالية ليست رفاهية أخلاقية أو مطلبًا رمزيًا فحسب — بل تمثل الوسيلة الواقعية الوحيدة لتفادي الإفلات من العقاب، لرد الحقوق، لتجنيب المجتمع الانزلاق في دورات انتقام وصراعات جديدة. من دون عدالة حقيقية، تبقى جذور الانتهاكات والكراهية قائمة، وتصبح المصالحة الوطنية حلماً بعيد المنال. 

كما أن المسار الصحيح للعدالة الانتقالية، إذا بُني على أساس تشريعي مستقل، بمؤسسات محايدة، وقضاء قادر على التحقيق والمحاكمة، وبمشاركة الضحايا والمجتمع المدني، سيشكّل أساسًا لإعادة بناء الدولة، ضمان حقوق الإنسان، واستعادة الثقة بين المواطنين والدولة.

الفرصة باقية، لكن الطريق شاق

تشكيل اللجنة الوطنية للعدالة الانتقالية قد يكون خطوة رمزية أو أولى، لكنه لا يضمن تلقائيًّا مسار عدالة فعّال. من دون تشريعات واضحة، دون محاكم متخصّصة، دون تجريم جرائم الحرب والانتهاكات الجسيمة، ودون استقلالية قضائية وإرادة سياسية حقيقية — ستبقى العدالة الانتقالية في سورية مطلبًا معلقًا، ليس أكثر.

في واقعٍ مثل سورية، حيث الأحقاد القديمة تختبئ خلف جراح مفتوحة، فإن التردد في إطلاق العدالة ليس خيارًا محايدًا — بل قرار ضروري عند كثيرين لتأجيل الحساب، وربما نسيان. لكن على أولئك الذين يريدون بناء مستقبل مختلف، أن يفهموا أن السلام لا يُبنى على صفقات سريعة، بل على إنصاف حقيقي وشامل

المزيد

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى