مقالات وآراء

د.تامر المغازي يكتب: عندما يصمت الحكيم.. لماذا لا يكفي الامتناع عن الكذب؟

في عالم يموج بالضجيج، حيث تتصارع الأصوات وتتدافع الآراء، تبرز حكمة خالدة تختزل موقفًا أخلاقيًا عظيمًا: “إن لم تستطع قول الحق، فلا تصفق للباطل”.

هذه العبارة ليست مجرد لافتة جذابة أو منشور على وسائل التواصل، بل هي منهج حياة، وحد أخلاقي فاصل بين الحياد الإيجابي والتبعية السلبية.

إنها دعوة للضمير المستيقظ، لتتحول من متلقٍ سلبي إلى حارسٍ للفضاء العام الذي نعيش فيه.

بين الصمت والتطبيل غالبًا ما نختزل الأخلاق في تجنب فعل الشر لا نكذب، لا نسرق، لا نغش وهذا أمر جيد، لكنه لا يكفي. المقولة تدفعنا إلى مستوى أعلى من المسؤولية وهي الأخلاق الإيجابية.

إنها الفرق بين من يرى حادثة ويغض الطرف، وبين من لا يشارك في الجريمة لكنه يرفض أن يكون شاهد زور.

في سياق السلطة أو البيئات الاجتماعية المغلوطة، يظهر معنى المقولة جليًا.

الصمت على الباطل قد يكون مبررًا أحيانًا خوفًا من ضرر شخصي، وهذا موقف إنساني يمكن فهمه.

لكن الخطر يبدأ عندما يتحول هذا الصمت إلى “تصفيق”.

التصفيق هنا ليس مجرد حركة اليدين، بل هو كل شكل من أشكال التأييد مثل الصمت الخانع، الإعجاب على منشور كاذب، المشاركة في ترسيخ رأي مغلوط، أو مجاراة الجمهور خوفًا من العزلة.

هذا التصفيق هو الذي يمنح الباطل الشرعية، ويحوله من رأي منبوذ إلى “رأي عام”.

التصفيق في عصر الضجيج الرقمي ففي عصرنا الرقمي، أصبح “التصفيق للباطل” أسهل وأكثر خطرًا.

فزر “الإعجاب” أو “إعادة النشر” قد يكون بمثابة تصفيق جماعي يضخم الأكاذيب ويجعلها تنتشر كالنار في الهشيم.

أصبحنا جميعًا مسؤولين ليس فقط عما نقوله، بل عما نقرره أن نعززه وننشره في فضاءاتنا الافتراضية.

الصمت هنا فضيلة، لكن عدم التصفيق فضيلة أعظم.

إنه رفض منح الباطل “الانطباع” بأنه مقبول أو شعبي.

الآثار عندما ينتصر الباطل بصمت الحكماء فالنتيجة الطبيعية لانتشار “التصفيق للباطل” هي تآكل الثقة.

تتهاوى الثقة بين الأفراد، وفي المؤسسات، وفي الخطاب العام.

يصبح من الصعب تمييز الصادق من الكاذب، الحكيم من المُروج. يخلق هذا بيئة خصبة للاستبداد الفكري، والفساد، والتفكك الاجتماعي.

كما أن التصفيق للباطل يقتل روح المبادرة عند أصحاب الحق، فيشعرون بأنهم صرخة في واد، مما قد يدفعهم للانسحاب والصمت هم أيضًا، فيدخل المجتمع في دوامة من الصمت المطبق.

كيف نترجم المقولة إلى فعل؟

لا تطلب المقولة من الجميع أن يكونوا أبطالاً شجعانًا يواجهون السلطان الجائر، فهذا يحتاج لمستوى نادر من التضحية.

لكنها تفتح بابًا واسعًا للمقاومة السلمية الأخلاقية فالصمت المشرف أن ترفض النطق بكلمة تمدح باطلاً تعرفه.

و مقاطعة الخطاب الكاذب وعدم المشاركة في نشر الشائعات أو الأخبار غير الموثوقة.

وكذلك التعبير عن الرأي في الدوائر الآمنة فقد لا تستطيع مواجهة الباطل جهرة، لكن يمكنك تبيان حقيقته بين أسرتك أو دائرة مقربيك.

و دعم أصحاب الحق حتى ولو كان دعمًا معنويًا خلفيًا، فهو يمنحهم قوة ويشعرهم بأنهم ليسوا وحدهم.

في النهاية، مقولة “إن لم تستطع قول الحق، فلا تصفق للباطل” هي استدعاء للضمير الجمعي.

هي تذكير بأن مساحات الحرية والصدق التي نتمتع بها اليوم، بناها أناس رفضوا أن يصطفوا في جوقة التصفيق للباطل، حتى لو كان ثمن ذلك الصمت المشرف هو الغربة.

إنها دعوة لأن نكون بشرًا بكامل إنسانيتنا، لا أدوات سلبيه تُعزز ما تعرف في قرارة نفسها أنه خطأ.

ففي المعركة بين الحق والباطل، لن يكون الصمت حيادًا، بل سيكون قرارًا، فليكن قرارك أن لا تمنح الباطل راحتك.

المزيد

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى