مصر

د.حسام بدراوي يكتب: لا تتكلم في الدين.. فلستَ من أهل التخصص!

كثيرًا ما أُفاجأ بمن يُطالبني بالصمت حين أتدبر القرآن أو أُبدي رأيًا في حديثٍ نبوي، بحجة أنني “لستُ عالمَ دين”، وكأن الدين قد نزل حكرًا على فئة دون سائر البشر، أو كأن فهم كلام الله ورسوله لا يجوز إلا لمن نال ختم الاعتماد من مؤسسة رسمية.

الدين، أيها السادة، نزل للناس كافة، ولم يُنزَّل في نسخة مشفّرة لا يفكها إلا المختصون. بل إن الله تعالى خاطب العقول، وحث على التدبر، ولم يُقيِّد ذلك بشرط الشهادة ولا المهنة، بل قال:﴿أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ﴾وقال: ﴿كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِّيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ﴾ولم يقل: ليتدبره العلماء الذين يدّعون التخصص فقط.

أعرف قدري، ولا أدّعي التخصص فيما لا يحتاج تخصص، ولا أصدر أحكامًا فقهية، ولكن لي عقل وهبني الله إياه، وروح تبحث، وقلب يتفاعل مع النص الإلهي، وعقل تربّى على العلم والنقد والتحليل.

وحين أقرأ القرآن لا أقرأه كحروف تُتلى، بل كنداء للوعي الإنساني، وعندما أتأمل الحديث لا أتعامل معه كصنم لغوي، بل كخطابٍ تاريخيٍّ روحيٍّ يحتاج إلى فهم السياق والمقصد.

أما من يقيس الدين بالطب ويقول:“كما لا أختلف معك في الطب، فلا تختلف معنا في الدين”،فأقول له: الطب علم تجريبي، لا مجال فيه إلا للمتخصص لأنه يقوم على خبرة علمية وعملية. أما الدين، فخطابه يبدأ من العقل والضمير، من الإنسان كإنسان، وليس كـ”أخصائي”. الدين يبدأ من السؤال، من التأمل، من البحث عن المعنى.

إن تحويل الدين إلى ملكية حصرية للنخبة، هو أول أبواب الكهنوت، وآخر معاقل الجمود.

الدين الذي لا يسمح لأبنائه أن يفكروا، أن يسألوا، أن يعيدوا قراءة النص بما يتسق مع تطور وعيهم، هو دين لم يفهم روحه، حتى وإن حفظ نصوصه.

عبر التاريخ، كثيرًا ما وُوجهت الظواهر الجديدة في مجتمعاتنا بالتحريم والتكفير بناءاً علي الفتاوي، ممن يحتكرون الكلام في الدين ، ثم ما لبثت أن تحوّلت هذه المحرَّمات إلى أعمدة من أعمدة الحياة اليومية.

القهوة، مثلًا، حين ظهرت في القرن الخامس عشر، حرّمها شيوخ المسلمين واعتبروها من المسكرات أو من “بدع الشيطان”، وكُفّر من يشربها أو يجتمع لشربها اعتمادا علي فتوي علماء الدين ، واليوم صارت رمزًا للضيافة، ومن مكونات الهوية الثقافية.

طُردت الطباعة من كثير من البلاد الإسلامية لقرون، بزعم أنها “تشوش على القرآن” أو تُستخدم “للنشر الفاسد” و أصبحت اليوم حجر الأساس في التعليم والدعوة والثقافة الدينية ذاتها.

كذلك ُالموسيقى، وتعليم المرأة، والمسرح، وحتى الرياضة… كل هذه نُظر إليها يومًا بعين الريبة أو الحرمة بفتاوي وقتها، من أمثال من يهاجمون اليوم ابداء الرأي في الدين ، ثم أصبحت أدوات نهضة وتنوير. وهذا يفتح سؤالًا خطيرًا: لماذا تتكرر هذه الظاهرة؟ ولماذا تُستخدم الفتوى في صدّ الجديد بدلًا من فهمه؟

في الإطار الصحي والي وقت قريب كانت الدعوة المبنية علي الفتوي بوجوب ختان البنات غير قابلة للمناقشة برغم وضوح مآسي إجرائها وضررها البالغ .

اليوم، ونحن في القرن الحادي والعشرين، ومع كل هذا التطور العلمي، يُطرح في مصر قانون يقضي بمنع أي رأي يقترب من قريب أو بعيد من الدين ويهاجم كل من يبدي رأيه لأنه ليس متخصصاً.

أنا لا أدّعي أني أملك “الحقيقة”، ولكنني أبحث عنها.

وإن كان التدبر تهمة، فمرحى بالتهمة، ما دمتُ أقرأ بعقل، وأتأمل بروح، وأحترم قداسة النص دون أن أُغلق باب الفهم.

وقد ارسل لي واحد من شباب الحالمين بالغد تعليقاً علي هذا الموضوع أعجبني وأشارككم فيه:يقول الشاب : إنني أتساءل كيف يعرف الناس الله؟

  • الطبيب يعرف الله عندما يتأمل نظم الحياة في الكائنات، وتشابك أعضائها ووظائفها، ودقة التوازن بين الخلايا والأنسجة، وما يجعلها تنبض بالحياة وتقاوم الموت.
  • المهندس يعرف الله عندما يرى الإبداع في تصميم الجبال والبحار والأرض والسماوات، وكيف تحكمها قوانين لا تختل، فيستدل بها على عظمة خالقها.
  • الفيزيائي يعرف الله حين يتأمل في قوانين الحركة والطاقة والمادة والزمن، ويتتبع بنية الكون من الذرة إلى المجرة.
  • الكيميائي يعرف الله عندما يري تفاعلات المواد التي تنشأ بين عناصر صماء فتصبح حياة وكيف تندمج وكيف تتنافر، ومن خلال الروابط الدقيقة التي تنظم المادة.
  • عالم الفلك يرى الله في اتساع الكون وثبات أفلاكه، وفي سكونه المرعب ونظامه الأعجب وعبقرية وكيف ننجو رغم صغرنا؟!
  • الرياضي يرى الله في التجريد المطلق للقوانين الرياضية، وفي انضباط الأرقام الذي ينظم كل شيء في الوجود.
  • عالم الأحياء يعرف الله عندما يتدبر في سلاسل التطور والتنوع الوراثي والتوازن البيئي، وكيف تنسجم الحياة رغم شدة تنوعها.
  • عالم النفس يدرك الله عندما يتأمل في وعي الإنسان، ومشاعره، وعقله الباطن، وصراعاته الداخلية، وكيف خُلق ليهتدي.

كل العلماء يعرفون عظمة الخالق وقدرته بالعلم، وعندما يقرأوا القرآن يروا برهان الله في آياته، فكل عالم يري الله في مجال علمه، وذلك لتتكامل العلوم الإنسانية والإدراك الإنساني ليستطيع الإنسان أن يعرف خالقه من خلال ما توصلوا إليه، وعندما تتكامل علومهم تكون معرفة الله أكبر وأعمق.

أما (منصب) رجل الدين ولا أتعرض هنا لشخص، يعد دخيل علي العلم والعلماء، فهي وساطة لا حاجة لنا بها، يزج بنفسه بين العلماء ليصنع من نفسه وسيط بين العبد وربه، يحمل غبار الدهر على كتفيه، ويريد من الجميع مساعدته في حمله، ولو رُفض طلبه يسب ويُهاجم ويُضرب.

وجود مراكز علم وبحث في الدين ، مطلوب لتوضيح المرجعيات والدخول في تفصيلات ، ولكنه ليس وصاية علي البشر ، بل نور توضيح ، وللقارئ حق الموافقة أو الإختلاف..بدون علم لن نتمكن من معرفة الله ولا تفسير آياته”سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الْآفَاقِ وَفِي أَنفُسِهِمْ حَتَّىٰ يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ” [فصلت: 53]

المزيد

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى