
في لحظة تُفترض أنّها مكرّسة للاحتفال بمرور 82 عاماً على استقلال لبنان، جاءت الضربة الإسرائيلية على ضاحية بيروت لتقلب المشهد رأساً على عقب، ولتشكّل خرقاً فاضحاً للسيادة اللبنانية، واختباراً مباشراً لقدرة الدولة على الدفاع عن حدودها وموقعها الإقليمي. فالاعتداء، الذي يحمل توقيعاً عسكرياً وأمنياً وسياسياً في آنٍ، لم يكن حادثاً عابراً، بل رسالة واضحة المعالم، موجّهة إلى الداخل اللبناني بمقدار ما هي موجّهة إلى الخارج.
توقيت الهجوم هو أول عناصر دلالته. فاستهداف بيروت في يوم الاستقلال لا يمكن قراءته إلّا كتحدٍّ لسلطة الدولة ورمزية المناسبة الوطنية، وكأنّ إسرائيل أرادت القول إنّ استقلال لبنان لا يزال غير مكتمل، وإنّ سيادته قابلة للاهتزاز متى قرّرت هي ذلك. هذا التوقيت وحده يكفي ليجعل الاعتداء أكثر من مجرد خرق أمني، إنه فعل سياسي بامتياز، يهدف إلى تقويض الثقة الوطنية وزعزعة صورة الدولة أمام شعبها والعالم.
ويأتي هذا التطوّر في وقت يحاول رئيس الجمهورية العماد جوزاف عون إطلاق مبادرة تفاوضية شاملة، تُعيد للجيش اللبناني حق الوصول إلى كل الأراضي، بما فيها النقاط المحتلة على الحدود، كخطوة نحو تثبيت السيادة وفق قواعد القانون الدولي. وتستند المبادرة إلى مبادئ واضحة: احترام قرارات الأمم المتحدة، تنفيذ القرار 1701 بحذافيره، ورفض أي محاولة لفرض تغييرات ميدانية بالقوّة.
وبالتالي، فإنّ الاعتداء الإسرائيلي يشكّل عملياً استباقاً لهذه المبادرة ومحاولة لنسفها قبل أن تبدأ، عبر إعادة فرض منطق القوّة على طاولة التفاوض.
ديبلوماسياً، يشكّل الهجوم تحدّياً مباشراً للمجتمع الدولي، الذي سبق أن التزم بدعم الجيش اللبناني وبالحفاظ على الاستقرار في الجنوب. فالخرق الجديد يفرض على الأمم المتحدة، وخصوصاً مجلس الأمن، إعادة النظر في آليات الردع والتطبيق، بعدما باتت الانتهاكات الإسرائيلية تتجاوز الخطوط الحمر وتتمّ في قلب العاصمة. ومن المتوقع أن تشهد الساعات المقبلة تحرّكات سياسية لبنانية واسعة، تهدف إلى تثبيت موقف واضح: لا أمن ولا استقرار من دون احترام السيادة اللبنانية كاملة.
أمنياً، يضع الاعتداء الجيش اللبناني أمام معادلة دقيقة. فهو مُطالب بالحفاظ على تماسك الجبهة الداخلية، وبالتصرّف وفق منطق الدولة لا منطق الانفعال، مع تمسّكه بحق الدفاع عن السيادة ضمن الأطر القانونية. وفي الوقت عينه، يبقى على الحكومة إدارة الأزمة بحنكة سياسية تمنع انزلاق البلاد إلى مواجهة مفتوحة لا يُريدها أحد، في لحظة يعاني فيها لبنان من هشاشة اقتصادية ومؤسساتية.
أمّا داخلياً، فالمشهد لا يخلو من رسائل سياسية. فالاعتداء يضع القوى السياسية أمام مسؤولياتها: هل تبقى الشعارات السيادية مجرّد عناوين خطابية؟ أم يتحوّل الإجماع الوطني إلى فعل سياسي متماسك يفرض احترام السيادة عملياً؟
إنّ الهجوم يُعيد طرح السؤال الجوهري: كيف يمكن للبنان أن يبسط سلطته على أراضيه في ظل استمرار الاحتلال والاعتداءات؟ وكيف يمكن للدولة أن تثبت حضورها إذا لم يُعطَ الجيش الإمكانات والصلاحيات الكاملة التي تتيح له حماية الحدود والنقاط المتنازع عليها؟
في المحصّلة، ما حدث ليس مجرّد ضربة عسكرية، بل محاولة لإعادة رسم قواعد اللعبة. والردّ اللبناني، سياسياً وديبلوماسياً، سيكون حجر الأساس في رسم المرحلة المقبلة. فإمّا أن يثبت لبنان أنّ استقلاله ليس مجرّد ذكرى، بل ممارسة حقيقية للسيادة، وإمّا أن تبقى المناسبة الوطنية عرضة للخروق والاختبارات







