
لم تعد الانتخابات في مصر فعلًا سياسيًا، بل أصبحت مرآة مكشوفة تعكس الصراع الحقيقي داخل الدولة العميقة، حيث لا تحسم الصناديق شيئًا، ولا يملك الناخبون سوى دور الكومبارس في مسرحية مكتوبة سلفًا. فالعملية برمتها تُدار باعتبارها “ملفًا سياديًا”، يتقرر مصيرها في مكاتب مظلمة، لا في لجان انتخابية. وما يطفو على السطح ليس تنافس مرشحين، بل تنافس أجنحة تتصارع على تعريف “المصلحة العليا”، وعلى من يملك حق احتكارها.
الجيش، بصفته المؤسسة الأكثر ثقلًا، يتحرك بمنطق الوصيّ على الدولة. لا يسمح بحدوث مفاجآت، ولا يترك شيئًا للظروف. لذلك يتدخل مبكرًا في هوية المرشحين، وفي مسار الحملات، وفي سقف الكلام المسموح للمعارضة الشكلية. لكنه ليس كتلة واحدة كما يتوهم البعض؛ بل هو شبكة معقدة من دوائر النفوذ، لكل منها مصالحها، وتحالفاتها، وقربها أو بعدها من مركز القرار.
وعندما تقترب الانتخابات، تتبدّى هذه الشبكات بوضوح: ضباط كبار يطمحون لتعزيز أدوارهم، وأذرع اقتصادية تبحث عن حماية مصالحها، وأطراف تريد الاقتراب أكثر من الرئيس، وأخرى تخشى أن يُقصى نفوذها. الانتخابات هنا ليست اقتراعًا، بل اختبار قوة داخلي.
أما المخابرات العامة فهي “المهندس السياسي” للمشهد. تمتلك خبرة طويلة في إدارة المساحات الرمادية: صناعة معارضة مُعلّبة، اختيار شخصيات يُسمح لها بالترشح، ترتيب لقاءات إعلامية، ضخ سرديات محسوبة بدقة، ومراقبة نبض الشارع الحقيقي والافتراضي. إنها اليد التي تعيد صياغة السياسة المصرية، وتحوّلها إلى لعبة ذات قواعد لا يعرفها إلا من داخل الجهاز. تمتلك من الملفات والأسرار ما يكفي لتحديد من يُدفع إلى المقدمة ومن يُقصى، وتعرف كيف تُمسك بالنخبة المدنية عبر مزيج من الترغيب والترهيب، وكيف تُهندس معارضة لا تتجاوز السقف المرسوم لها. وفي بلد هشّ الشرعية كالمشهد المصري، تصبح صناعة “معارضة الديكور” ضرورة أمنية قبل أن تكون خيارًا سياسيًا.
على الجهة الأخرى، تقف المخابرات الحربية باعتبارها امتداد الرئيس داخل المؤسسة العسكرية. هي الجهاز الذي يرى أن السياسة امتداد مباشر للقيادة، وأن أي حديث عن بدائل أو تغييرات أو مرشحين محتملين هو مساس بالرئيس ذاته.
هذا الجهاز يمسك بالجيش من الداخل، ويراقب الولاءات والتحالفات، ويعمل على تحصين مركز القرار. وعندما تتقاطع حساباته مع حسابات المخابرات العامة، يظهر التوتر الخفي: هذا يريد إدارة السياسة، وذاك يريد احتكارها؛ هذا يسعى لتوسيع نفوذه، وذاك يعتبر أن الملف الانتخابي جزء من أمن الرئاسة.
في هذه اللحظات الحساسة، يمكن للانتخابات أن تتحول من مشهد منضبط إلى ساحة صراع مكتوم بين الأجهزة.
وفي الخلفية، تتحرك دوائر أخرى أقل ضجيجًا لكنها شديدة الأثر: الأمن الوطني، الإدارات المحلية، شبكات رجال الأعمال، وجهاز البيروقراطية القديم الممتد عبر المحافظات. هذه القوى لا تصنع قرارًا، لكنها ترجّح كفة. هي التي تحشد، أو تُفرغ اللجان، أو تعرقل مرشحًا محليًا، أو تُظهر مشاركة “ممتازة” في دائرة ما. إنها الذراع الأرضية التي يُبنى عليها استقرار النتيجة، والتي يراهن عليها كل جناح لإثبات قدرته على ضبط الإقليم أو السيطرة عليه.
هذا كله يكشف أن الدولة المصرية لا ترى في المجتمع مصدرًا للشرعية، بل مصدرًا للخطر. لذلك تُدار الانتخابات باعتبارها عملية أمنية؛ نتائجها يجب أن تكون معروفة، ورسائلها محسوبة، وإيحاءاتها مضبوطة، والوجوه التي تظهر فيها يجب أن تكون مطمئِنة للنظام، لا مُقلِقة له. والخطورة هنا ليست فقط في غياب الديمقراطية، بل في هشاشة نظام يعتمد على الأجهزة أكثر مما يعتمد على المجتمع. فحين تحتكر الأجهزة السياسة بالكامل، يصبح أي خلاف داخلي تهديدًا وجوديًا، وأي تغيير في موازين القوة داخلها كفيلًا بإرباك المشهد كله.
الناس تدرك ذلك. لم يعد هناك من يصدق أن صوته يصنع فرقًا. البعض يقاطع ساخرًا، والبعض يذهب مضطرًا، والبعض يتعامل مع الانتخابات كإجراء إداري لا معنى له. ومع مرور الوقت، تتآكل ليس فقط شرعية الانتخابات، بل شرعية الدولة نفسها. ورغم قدرة الأجهزة على إخراج مشهد منضبط لسنوات، إلا أن السؤال الجوهري يظل قائمًا:
ماذا يحدث عندما يتزامن الفشل الاقتصادي مع الصراع داخل الأجهزة؟ حينها، لن تكون الشوارع هي أول مكان يظهر فيه التصدع، بل صناديق الاقتراع نفسها؛ لأنها ساحة الصراع الحقيقية بين اللاعبين الذين يحتكرون المشهد.
هكذا تصبح الانتخابات في مصر أقرب إلى اختبار قوة لا علاقة له بالشعب، بل بالدولة ذاتها، التي تبدو قوية على السطح، هشة في العمق، مستقرة شكليًا، قلقة فعليًا… تنتظر اللحظة التي ينكشف فيها ما تخفيه الجدران السميكة من صراعات.







