
ترتبط مدى نزاهة أية انتخابات برلمانية بكافة الأوضاع المرتبطة بالتدخلات غير الطبيعية في العملية الانتخابية ماديا ومعنويا، بما يفضي إلى تغيير النتائج أو العبث فيها، بشكل يسفر عن تغيير واضح في هيكل العضوية في البرلمان. في هذا الإطار، نكون أمام سلوك غير نزية يتصل بتصرفات طرف أو بعض أو كل من: إدارة الانتخابات، المرشحين، الناخبين.
زمن التمسك بعمل القضاة في الانتخابات
عندما اختار دستور 2012 المعدل عام 2014 وجود هيئة وطنية مستقلة إدارة الانتخابات المصرية، كانت الأذهان تقع على شعار كبير لطالما تمسك به الناس لعدة سنوات، وجعلوه أحد أدوات المواجهة بين المعارضة والسلطة النازحة نحو تزوير إرادة الناخبين. هذا الشعار كان دوما إشراف القضاء على العملية الانتخابية، من خلال معادلة قاضي على كل صندوق. يومئذ كانت هناك مقولة أن القضاة هم أنزه الناس الذين ليس لهم مصلحة في انتصار طرف وهزيمة طرف، بوصفهم رواد في إعمال القانون والعدالة والموضوعية والحياد، وجميعها صفات مردوا عليها وجبل عليها عملهم وأدائهم منذ بداية تنظيم تلك السلطة مع تطور نشأة الدولة الحديثة، وهو ما صارت عليه الدولة المصرية، من مبدأ الفصل بين السلطات، وتأسيس سلطة قضائية تزود عن حرية الرأي والتعبير، وهو أيضا ما طفقت تتشبث به أحكام محاكمها وقضائها الدستوري.
هل ولى عهد عمل القضاة في الانتخابات؟
مقابل ذلك كانت هناك وجهه نظر أخرى، حملها بعض القضاة أنفسهم، أساسها أن القضاء لا يجب أن ينغمس بالعمل بالشأن السياسي، وأن الخوض في تلك الأعمال يعرض نزاهته وموضوعيته للشك، لاحتكاكه المباشر بينه وبين السلطة التنفيذية، وكذلك لنزوله لساحة التعامل المباشر والاتصال الدائم بالناس، وهو أمر غير مفضل، لأن من مصلحة الناس ألا يشارك هؤلاء بشكل مباشر أو غير مباشر في دهاليز السياسة وتنظيم المطابخ الانتخابية، لما لها من صفات تتباين مع مبادى الحياد والشفافية والموضوعية، ولأن الانتخابات لا تعرف في الحقيقة سوى أساليب المساومة والمفاوضة والحلول الوسط والتربيطات وتحوّل التحالفات والسعى لانتكاس وإنهزام الخصوم ولربما في بعض المجتمعات نكث الوعود والحنث بالإيمان ونقض الكلمات.
لكن في مواجهة سلطة جائرة، وسلطان متفرد، تمسك الناس بالقضاة، ورغب هؤلاء في نزول هؤلاء لتلك الساحة الجديدة عليهم، إنقاذا للعدالة، ومنعا للاستبداد، وزودا عن حرية الرأي والتعبير للعامة، وأحياءا للمعارضة التي طالما قُهرت من قبل أغلبية مصطنعة على النحو الذي شهده نظام الرئيس الأسبق حسنى مبارك.
هل الهيئة الوطنية شاركت في الدعاية الانتخابية لمستقبل وطن؟
ولعل الناظر إلى الهيئة الوطنية الحالية للانتخابات يجد عديد المثالب التي طالت سلوكها، إلى الحد الذي وصل برئيس الدولة أن رفع شعار “فيتو” على عملها، وأعلن خشيته من عدم الاستقرار، مذكرا مستمعيه بأحداث انتخابات 2010 التي أوصلت مصر لموجه من عدم الاستقرار، يربأ بها أي وطني على وطنه، وإن كان لا شك يرغب في تغيير هذا النظام الذي ما فتئ أن ينتهك الحقوق ويسلُب مقدرات البلاد لصالح الرئيس الأسبق وأسرته وحفنة من المنتفعين حوله.
1- منع المرشحين من الحصول على صور من محاضر الفرز، بانتهاك صريح لقانون مباشرة الحقوق السياسية بعجز المادة48. هذا الأمر يوغر في نفوس المرشحين شك من نزاهة الانتخابات حتى لو كانت نزيهة.
2- شكاوى عديد المرشحين من أنهم لم يحصلوا على الرقم واحد عند تقديم أوراق الترشيح رغم وصولهم في ساعات مبكرة من صباح اليوم الأول من الترشيح، وذلك لصالح منح تلك الأولوية على مستوى كافة الدوائر الـ100 الذي ترشح فيها مستقبل مستقبل وطن عدى واحدة، ما يجعل الهيئة -على حد تعبير هؤلاء- مشاركة في الدعاية لهذا الحزب، بالمخالفة لعملها الحيادي الذي نص عليه بند5 من مادة 22 من قانون الهيئة الوطنية.
3-إحراج البلاد وتشوية سمعتها بمنع القوائم الأخرى من المشاركة لمنافسة ما يسمى بقائمة الدولة، ما جعل الانتخابات أشبة بالاستفتاء أو التزكية أو التعيين في نحو55% من المقاعد. وقد تم ذلك بحجج واهية، كورقة كشف طبي أو مستند مؤهل..إلخ، ودون منح مهلة إضافية لساعات لاستكمال الأوراق.
4- ترك القائمة الانتخابية متخمة بتوريث المقاعد بين القوائم الأساسية والاحتياطية، بشكل لا يمكن معه أن تحتج الهيئة بأنها ليس لها دخل في تشكيل القوائم، لكون صلاحياتها الكثيرة في قانون تأسيسها تجعلها متداخلة في كافة الأمور الداعمة للموضوعية والنزاهة. هنا يلاحظ أن أحد المرشحين بالقائمة عن الجبهة الوطنية، وصل الحال به من التبجح لكي يتنازل قبل ساعات من بدء الاقتراع لأبنه الموجود في القائمة الاحتياطية، ليعلن مبكرا عن فساد المنظومة برمتها!!
5- ارتباطا بصلاحيات الهيئة الكبيرة والمذكورة في القانون، تركت الهيئة الناس يضربون أخماس في أسداس وهم يرون ويسمعون بمواقع التواصل عن رشاوى رجال الأعمال لأحزاب بعينها كي يحصلوا على مقاعد مضمونة في القائمة الموحدة.
6- ترك حزب مستقبل وطن يرتب القائمة الوطنية بشكل عشوائي بأن يجمع بين الصفات الاجتماعية للمرشح الواحد، بشكل يسيء لتلك الصفات، ويدحض شعارات الدولة بدعمها لأصحابها. علاوة على ذلك تركت الهيئة المرشحين من كافة الجهات يجوبون القوائم، فمرشح وجه قبلي يترشح في البحري والعكس، مما يقلل من تحمس الناس للمشاركة في الاقتراع، لكونهم لن يقبلوا على انتخاب أُناس لم يعرفوهم.
7- ترك المال الانتخابي الفاسد يرتع أمام لجان الاقتراع سواء بشكل مباشر أو عبر كراتين المواد التموينية، دون أن تقدم الهيئة على إعمال صلاحياتها وتشطب ولو مرشح واحد.
هل يمكن إعادة الانتخاب وإلغاء انتدابات الهيئة؟
هنا يصبح السؤال ما العمل؟ لقد وضعت الهيئة البلاد في خيارات أحلاها مر، خاصة بعد أن حكمت المحكمة الإدارية العليا بإلغاء الانتخابات في نحو 29 دائرة انتخابية، علاوة على إلغاء الهيئة ذاتها للانتخابات في 19 دائرة من دوائر المرحلة الأولى، وهو الإجراء الذي اعتبره الكثيرين لم يكن ليحدث لولا تدخل رئيس الجمهورية -قبل ساعات من إعلان نتيجة المرحلة الأولى- زوذا لحرية الرأي والتعبير.
هناك المادة 139 من الدستور التي تصف رئيس الجمهورية بأنه رئيس الدولة، وهو وصف مرد عديد من فقهاء القانون الدستوري على أنه يعنى أنه ليس فقط رئيسا للسلطة التنفيذية فحسب، بل وأيضا حكما بين السلطات، من هنا فإن تدخل الرئيس المباشر في الأمر إنصافا للحق أمر واجب وضرورى، ما يجعله يتخذ من القرارات التي تعيد الحقوق لأصحابها، وتُعدل من كفة الميزان أمرا محوريا وجوهريا.
كذلك المادة 157 من الدستور التي تعطي لرئيس الجمهورية الحق في الدعوة لاستفتاء عام لمسألة أو أكثر. هنا سيكون سؤال الاستفتاء، هل تقبل بإعادة الانتخابات؟ وهل توافق على تعديل قانون الانتخاب؟. لا شك عند الكثيرين أن الإجابة ستكون بالإيجاب بنسبة كبيرة، ما يجعل البرلمان الذي ستنتهي مدته خلال أسابيع قليلة مطالب بأن يسن قانون عادل يتجنب العيوب الراهنة، وهو عقد الانتخابات بالقوائم النسبية الحزبية المغلقة، لما لهذا النظام من عدالة، ولكونه سيمنع كلية العنف والعصبيات والرشى الانتخابية، ناهيك عن أنه ينعش النظام الحزبي، ويجعل أداء البرلمان راقيا، لكونه مرتبطا بسياسات عامة، وليس سياسات جهوية أو محلية.
من المهم كذلك إعمال نص القانون بإلقاء الكرة في ملعب المجلس الأعلى للقضاء كي يرى بموجب نص المادتين 25 و26 من قانون الهيئة الوطنية للانتخابات، الذي يمنح المجلس حقوقا منها إلغاء ندب القضاة العشرة الذين يديرون اليوم الهيئة الوطنية للانتخابات، لكون الهيئة حسب ما يرى البعض بعض المشاركين أنصفت مستقبل وطن على حسابهم بشأن أولوية الترشيح.
بالطبع من الممكن أن تستمر الانتخابات بذات الوتيرة، عقب تنفيذ الأحكام، لكن يبدو أن هذا الخيار هو الأشد مرارة، لأن المجلس القادم سيلعب دورا كبيرا في انتخبات الرئاسة 2030، والتي يرجى منها أن تكون انتخابات موضوعية وحيادية وسليمة.







