مقالات وآراء

أحمد هلال يكتب : سيناريوهات مستقبل جماعة الإخوان المسلمين وتأثير غيابها على النسيج المجتمعي

كلما كان هناك ضغوط على جماعة الإخوان المسلمين كلما تعالت أصوات بحل الجماعة استجابة لتلك الضغوط بصرف النظر عن مشروعيتها أو واقعيتها أو قانونيتها.
والباحث في تاريخ جماعة الإخوان المسلمين لا يجد قراراًإدارياً منشئاً لها، بقدر أنها مرتكزة على منهج فكري تجمع حول تلك الفكرة من اقتنع بها وعمل من أجلها حتى اتسعت وانتشرت وكان لها أثر وعمق في التاريخ والجغرافيا.

وأصبحت رقماً صعباً في المعادلة الدولية على المستوى المجتمعي والسياسات والتشابك وصناعة التاريخ.
تجذرت الجماعة في عمق المجتمعات واشرفت على القرن الأول من تاريخها بكل ما فيه من أحداث متلاحقة.
وبعد قرار ترامب التنفيذي بالتوصية بتصنيف جماعة الإخوان المسلمين كمنظمة إرهابية أصبحت جماعة الإخوان المسلمين تريند في العالم وحديث الساعة بين مطالب لها باعتزال العمل السياسي أو قصر عملها على العمل الخيري أو الاندماج والتحول إلى تيار عام،أو الحل النهائي واختفاء الجماعة.

ومن هنا كانت تلك الدراسة التحليلية المتوازنة مستعيناً ببعض المصادر والمراجع وقارئاً جيداً في منهج جماعة الإخوان المسلمين.
تبدو علاقة الدولة بالحركات الاجتماعية الكبرى علاقةًمتشابكة لا تُدرَك إلا بقدر ما يُستوعَب عمق حضور هذه الحركات في النسيج الثقافي والثقة الأخلاقية والوجدان الشعبي. ومن بين تلك الحركات التي شكّلت امتداداً تاريخياً وثقافياً في المجتمعات العربية والإسلامية، تأتي جماعة الإخوان المسلمين بصفتها نموذجاً لحركة اجتماعية دعوية ذات امتداد تربوي وتنظيمي، ظلّت لعقود أحد أهم الفواعل في ضبط إيقاع المجتمع، وتوجيه طاقة شبابه، وتوفير إطار قيمي ينظّم التفاعل بين الفرد والجماعة.

وعلى الرغم من الجدل السياسي المحتدم حول الجماعة، فإنّ سيناريو حلّها لم يثبت تحقّقه واقعاً؛ إذ بيّنت خبرات التاريخ المعاصر أن الحركات الممتدة المتجذّرة لا تنتهي بقرار إداري، بل تتحوّل أو تتخفّى أو تعيد إنتاج ذاتها في صيغ أخرى، وهو ما أشار إليه تشارلز تيلي في تحليله لطبيعة الحركات الاجتماعية بوصفها بُنى مقاومة للزوال، تتكيّف مع محيطها بمرونة ملحوظة (Tilly, 2004). وعليه، تبقى القراءة التحليلية منصبّة على الآثار الفكرية والاجتماعية والأخلاقية لغياب الدور العلني للجماعة—ليس الحل.

أولاً: الأثر الاجتماعي: انكماش الحاضنة وارتباك المجال العام

أظهرت تجارب المجتمعات ذات الحركات التنظيمية الممتدة أن غياب الفاعل الاجتماعي يخلّف فراغاً لا يمكن ملؤه سريعاً (Putnam, 1993). فعلى المستوى المجتمعي، يؤدي تراجع الدور العام للإخوان إلى اهتزاز البنية الوسيطة التي كانت تنسّق بين المجتمع والدولة من خلال الجمعيات الخيرية، والروابط الدعوية، والمؤسسات التربوية. هذه البنية، رغم اختلاف المواقف منها، مثّلت صمّام توازن يحدّ من تشتت القواعد الشعبية ويخلق مساراً اجتماعياً منظّماً لاستيعاب الطاقات والانفعالات.

ومع غياب تلك الحاضنة، لا سيما للشباب، تظهر ظاهرة ما يُعرف في الأدبيات الاجتماعية بـ “تفكك شبكات الانتماء”، وهي حالة ينتج عنها تصاعد السلوكيات الفردية غير المنضبطة، وتراجع الرقابة الاجتماعية، وازدياد معدلات الانحراف الأخلاقي واللاشعور بالمسؤولية الجماعية (Durkheim, 1897). ويزداد الأمر حدّة في البيئات التي لم تُطوّر فيها الدولة بديلاً مؤسسياً قادراً على استيعاب الشباب وتوجيههم.

ثانياً: الأثر الفكري: من المجال العام إلى الظلال

إن أخطر ما ينجم عن تراجع دور الجماعة في المجال الفكري هو انتقال الحوار من العلن إلى الظلال، ومن ساحات النقاش المفتوح إلى دوائر الانغلاق، وهو ما يصفه هابرماس بـ “تآكل المجال العمومي” حين يغيب التنوع ويُقصى أحد الأطراف المؤثرة (Habermas, 1989). فالأفكار التي كانت موضوعاً للنقد والمراجعة تصبح أكثر تصلّباً حين تفقد احتكاكها بالمجتمع الواسع. ومن ثَمّ يتحوّل التيار الذي كان قابلاً للتعديل إلى تيارات متفرّقة أقل قابلية للتفاعل وأكثر استعداداً للتطرّف الرمزي أو الفكري.
والمطالبة بالحل هو أقصر طريق لخلق بيئة أكثر انغلاقاًوأكثر ضبابية.

ثالثاً: الأثر الأخلاقي: المعايير المزدوجة وتصدّع الثقة

الاستقرار الأخلاقي في أي مجتمع يقوم على شعور عام بالعدالة والاتساق، أي أن تُدار الخلافات ضمن قواعد واضحة وثابتة للجميع. وعندما يشعر قطاع من المجتمع، سواء كانوا مؤيّدين أو متعاطفين أو منتمين، أن حركة واسعة الحضور قد أُخرجت من المعادلة من دون مسار تشاركي أو قانوني كامل، يظهر ما يسمّيه راولز “أزمة شرعية معيارية” (Rawls, 1993). وفي مثل هذه الأزمات تتراجع الثقة في المنظومة الأخلاقية العامة، ويتنامى الخطاب القائم على المظلومية والارتياب، ويزداد الميل إلى تأويل الأحداث خارج إطار الدولة.

رابعاً: دور الجماعة في حماية الشباب: غياب الإطار الناظم

تاريخياً، أدت الجماعة دوراً مركزياً في احتضان الشباب، من خلال مؤسسات تربوية تنظّم وقتهم، وتؤطر خياراتهم، وتدمجهم في منظومة قيمية واضحة. وقد أثبتت دراسات علم الاجتماع الديني أن الجماعات الداعمة للهوية القيمية تُعدّ أداة مهمة في ضبط انحراف السلوك وتخفيف التوتر الوجودي لدى المراهقين والشباب (Smith, 2003). وبغياب هذا الإطار، يُترك الشباب أمام ثلاثة مسارات:

  1. مسار الفردية المتفلّتة: حيث يغيب الضبط الاجتماعي وتضعف المرجعية الأخلاقية.
  2. مسار الانكفاء الروحي: حيث يُبحث عن بدائل أقل توازناً وأكثر انعزالاً.
  3. مسار التسييس الفوضوي: حيث تستغل بعض الجهات فراغ الانتماء في تجييش الشباب لأهداف غير مستقرة.

وهذه المسارات، عند اقترانها بضعف البنية الاجتماعية، قد تُربك الدولة لأن السلوكيات الناتجة عنها فردية، غير منظّمة، وغير قابلة للمحاسبة الجماعية. فغياب الجماعة، بما هي إطار مسؤول، ينقل المسؤولية إلى أفراد متناثرين، يصعب ضبطهم أو مساءلتهم وفق منطق الأخلاق الجماعية. وقد يكون إيجابياً للجماعة من زاوية غياب شماعة الجماعة التي يُلقى عليها كل أسباب الفشل الداخلي والخارجي على كل الأصعدة.

خامساً: سيناريوهات مستقبلية محتملة

  1. سيناريو “التجزئة الناعمة”: تتجه الجماعة إلى التفتت غير الصدامي، وتظهر كيانات صغيرة محلية الطابع، تركز على العمل القيمي والخيري، وهو سيناريو يتّسق مع نماذج تفكك الحركات الممتدة (Wiktorowicz, 2006). وهذا ما بدأ ينتج عن الانشقاقات الداخلية والخلافات في صف الجماعة وخاصة بعد أحداث ميدان رابعة والنهضة. وظهور مجموعات تحمل أفكاراً متباينة ما بين التعايش مع الأمر الواقع وما بين تغيير النظام بالقوة والمواجهة.
  2. سيناريو التحول إلى حركة مجتمعية واسعة بلا هياكل: وفق منطق “تفكك التنظيم وبقاء الفكرة”، تتحول الجماعة إلى حالة اجتماعية-ثقافية مرنة، تؤثر من دون وجود تنظيمي صارم. وهذا السيناريو حتمي التحقق عند ظهور مؤسسات الدولة الرسمية وتحملها مسؤولية الحفاظ على الدولة بكل مكوناتها واستيعاب الأفراد بكل توجهاتهم من خلال منظومة قيمية واضحة وثابتة تشرف عليها الدولة الرسمية.
  3. سيناريو الاندماج غير المباشر: تركّز الجماعة على إدماج خطابها في المجتمع المدني والمؤسسات القائمة، مع تقليل الصبغة التنظيمية. يشبه هذا ما حدث مع حركات مسيحية–اجتماعية في أوروبا منتصف القرن العشرين.
  4. سيناريو عودة الأطر الوسطية: تنشأ مؤسسات شبابية مستقلة تحمل الإرث التربوي-القيمي للجماعة دون الصفة التنظيمية التقليدية، مما يعيد إنتاج دورها في ضبط السلوك الاجتماعي. ويظل هذا التواجد رهناً بالتغيرات الفكرية التي قد تطرأ داخل تلك المؤسسات.

سادساً: البعد السياسي: بين شرعية التمثيل وقلق الدولة

لم يكن حضور الجماعة في المجال السياسي طارئاً أو عارضاً، بل كان امتداداً طبيعياً لحضورها الاجتماعي والدعوي. غير أنّ اللحظة المفصلية التي أعادت رسم علاقة الدولة بالجماعة كانت النجاح السياسي غير المسبوق الذي حققته الجماعة في آخر انتخابات ديمقراطية حقيقية شهدتها المنطقة، وهي لحظة كشفت عمق تجذّرها في القواعد الاجتماعية وقدرتها على تحويل رأس مالها الاجتماعي إلى رأسمال سياسي، بما يتسق مع ما يطرحه بيير بورديو حول قابلية الحركات الاجتماعية لتحويل شرعيتها القيمية إلى شرعية تمثيلية (Bourdieu, 1986). وهذا ينفي عن الجماعة مقولة استغلال التغلغل الاجتماعي للتحكم السياسي على اعتبار مشروعية وطبيعة تطور العلاقات المجتمعية.

لقد أدّى هذا النجاح إلى اهتزاز معادلة القوة التقليدية وإثارة قلق النظم السياسية التي لم تكن مستعدة لتمكين فاعل اجتماعي-دعوي من قيادة المجال التنفيذي. ومن هنا بدأت محاولة تجاوز الجماعة سياسياً، لا بوصفها حركة معارضة فحسب، بل بوصفها منافساً قادراً على اكتساب شرعية شعبية واسعة، وامتلاك قدرة تعبئة لا تتوفر لغيرها.

هذا التجاذب بين “شرعية التمثيل الشعبي” وشرعية الدولة، يعكس ما يصفه خوان لينز بـ”غُبن الشرعيات المتنافسة” حين تتواجه مؤسسات ذات قوة اجتماعية مع مؤسسات الدولة الرسمية في سياق هشّ من التحول الديمقراطي (Linz & Stepan, 1996). وهو ما جعل المشهد السياسي يتحرك من خلاف سياسي إلى نزاع على تعريف الشرعية نفسها. وهو ما قد أدى إلى تباين الخلاف بين القوى المدنية والحركة الإسلامية من جهة وبين الحركة الإسلامية والنظام العسكري من جهة أخرى.

لكن غياب الجماعة عن المعادلة السياسية لاحقاً لم ينهِ هذا الإشكال، بل عمّقه؛ إذ تحوّلت الساحة السياسية إلى مجال أحادي الصوت، وهو ما يخالف منطق “التعدد المؤسسي” الذي يشكّل أساس الاستقرار في الأنظمة التي تمر بمرحلة انتقالية (Diamond, 1999). فالديمقراطية لا تترسّخ بوجود طرف واحد، بل بوجود منافسة سياسية منضبطة، ومساحات مشاركة، وقنوات امتصاص للاحتقان.

كما أنّ استبعاد الجماعة، بما لها من قاعدة شعبية، أدى إلى نتائج متناقضة مع هدف ضبط المجال السياسي؛ فمن جهة، تراجع الانخراط المنظم في السياسة، ومن جهة أخرى، زادت أشكال المعارضة غير الرسمية، وهي ظاهرة وصفها تشارلز تيلي بـ “السياسة بلا مؤسسات”، وهي أكثر اضطراباً، وأقل قابلية للتفاوض، وأشدّ خطراً على الاستقرار (Tilly, 2004).

ويكتسب هذا البعد أهمية إضافية حين نربطه بما تم ذكره سابقاً حول الشباب؛ إذ إن الجماعة كانت تشكّل لسنوات طويلة “قناة المشاركة السياسية الأكثر اتساعاً وتنظيماً” للشباب المتدين والمهتم بالشأن العام. ومع غياب هذه القناة، بات الشباب أمام أحد خيارين:

  1. الخروج من السياسة نهائياً، ما يخلق جيلاً مهموماً بلا أدوات، ناقماً بلا منافذ.
  2. الانخراط في طرائق تعبير غير منظمة، يصعب ضبطها أو مساءلة أصحابها، ويصعب إدماجها ضمن هندسة الدولة السياسية.

وهكذا، فإن تجاوز الجماعة سياسياً لم يؤدِّ إلى إنهاء الأثر السياسي، بل إلى تشظيته، وقد تكون آثار هذا التشظي أطول أمداً وأكثر تعقيداً من التعامل مع فاعل سياسي مؤسسي واحد.

أخيرا
لذلك فإن المطالبة بحل جماعة الإخوان المسلمين أو المطالبة بعزلتها السياسية يعد تعميقا ً للأزمات المجتمعية وإفراغاً للمناخ العام وإقصاءً لفصيل وطني متجذر في عمق الدولة المصرية، ينتج عنه فراغات سياسية واجتماعية وأخلاقية، ويوقف حالة الحراك الميداني الذي يمكن أن يكون أحد ركائز البناء الحضاري الإسلامي للدولة المصرية المدنية.
تكشف الدراسة أن السيناريو الأكثر واقعية ليس اختفاء الفكرة أو التأثير، بل تحولها إلى أشكال قد تكون أكثر تعقيداً وأقل قابلية للحوار والضبط، مما يفرض إعادة النظر في مقاربة التعامل مع الظاهرة من منظور إدارة تنوع مجتمعي معقد بدلاً من منظور القمع،والتعامل الأمني والإقصاء الإداري.

مراجع المقال:

أولاً: مراجع عربية

· أحمد، رضوان السيد. (2001). الجماعة والسلطة والمجتمع المدني. بيروت: دار النهار.
· الجابري، محمد عابد. (1994). المجال العام وقضايا الفكر السياسي. بيروت: مركز دراسات الوحدة العربية.
· الفقي، طارق. (2015). الشباب والحركات الاجتماعية في العالم العربي. القاهرة: المركز العربي للبحوث.
· العجيلي، حيدر. (2017). الدين والسياسة في العالم العربي: دراسة في الأطر الحركية. عمّان: دار كنوز المعرفة.
· شحاته، حسام تمام. (2010). تحولات جماعة الإخوان المسلمين: من الدعوة إلى السياسة. القاهرة: دار الشروق.

ثانياً: مراجع أجنبية
توجد مراجع تمت الإشارة إليها في صلب المقال ،تجنبا للإطالة

المزيد

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى