
“قراءة استراتيجية شاملة من 2014 إلى المستقبل”
منذ اللحظة التي ظهر فيها خليفة حفتر على شاشة التلفزيون في فبراير 2014 معلنًا “عملية الكرامة”، دخلت ليبيا طورًا جديدًا من الصراع، لم يكن مجرد تنازع داخلي على السلطة، بل بداية مواجهة استراتيجية بين مشروع تقسيم ترعاه أطراف إقليمية ودولية، وبين مشروع دولة ليبية موحدة تحاول الشرعية الدولية الحفاظ عليه.
ومع مرور السنوات، تشكلت ملامح مسارين متصادمين: مسار حفتر الذي تأسس على بناء كيان شرقي مستقل فعليًا، ومسار الدولة الذي عاد للواجهة مؤخرًا مع تنسيق عسكري متقدم بين رئيس الأركان محمد الحداد وقيادة “أفريكوم” الأمريكية.
هذا المقال يقدّم رؤية تحليلية شاملة تربط المشهد منذ ظهور حفتر حتى لقاء الحداد– أفريكوم، ثم يستشرف ما ينتظر ليبيا خلال السنوات القادمة.
من أين بدأ المشروع؟
حفتر من قائد منشق إلى مركز ثقل إقليمي. لم يكن حفتر مجرد شخصية عسكرية خرجت من الظل، بل كان منذ أول يوم مشروعًا إقليميًا مكتمل الأركان:
إعادة تأهيل من الإمارات بعد 2011.
دعم سياسي ولوجستي من مصر.
غطاء غربي بدعوى “محاربة الإرهاب”.
دعم استخباراتي فرنسي ووجود متقدم لفاغنر الروسية لاحقًا.
وبالتوازي مع ذلك، أخذ حفتر يقوم ببناء منظومة كاملة في الشرق:
مؤسسة عسكرية عائلية بقيادة أبنائه.
حكومة وبرلمان موازٍ.
نفوذ كامل على الموانئ والهلال النفطي.
مؤسسات مالية واقتصادية مستقلة فعليًا عن طرابلس.
هذا التراكم لم يكن مجرد “فوضى بعد الثورة”، بل خط إنتاج متواصل لإنشاء دولة شرق ليبيا.
هجوم 2019 على طرابلس… نقطة الانكسار السياسي والعسكري. اعتقد حفتر أن عام 2019 سيكون نهاية الصراع وأنه قادر على دخول طرابلس خلال أيام. لكن النتيجة كانت عكس ذلك تمامًا:
دخول تركيا بثقل عسكري حاسم.
انهيار مشروع السيطرة الكاملة على ليبيا.
توقف تمدد قواته عند سرت-الجفرة.
انكشاف الطابع الإقليمي الصريح لمشروعه.
وبعد الهزيمة، انتقل حفتر من محاولة “حكم ليبيا” إلى محاولة حكم الشرق فقط وبنائه ككيان منفصل.
سرت– الجفرة… العاصمة العسكرية للمشروع الموازي. تشكّلت منطقة سرت– الجفرة بعد الحرب كـ حاجز استراتيجي يقسم ليبيا إلى نصفين، وتحولت إلى:
مركز عمليات إماراتي– روسي مشترك.
نقطة ارتكاز لفاغنر على البحر المتوسط.
خط تماس سياسي يمنع الدولة من الاندماج.
غرفة إدارة للحقول والموانئ في الهلال النفطي.
تشكيل هذه المنطقة لم يكن مجرد وضع ميداني، بل ركيزة من ركائز مشروع التقسيم الناعم.
التحولات الدولية.. من تمدد روسيا في الشرق إلى عودة أمريكا عبر طرابلس. في السنوات الأخيرة، زاد عمق الحضور الروسي في الشرق—قوات، خبراء، أمن حدود، منشآت نفطية— وأصبح يشكل تهديدًا مباشرًا لمعادلات واشنطن في ليبيا والمتوسط والساحل. ومع هذا التمدد، بدأ يظهر تطور جديد تمامًا:
محاولة أمريكية لإعادة رسم التوازن عبر التعاون المباشر مع المؤسسة العسكرية في طرابلس.
وهنا يأتي الحدث الأكثر أهمية في 2025: لقاء محمد الحداد، رئيس الأركان العامة، مع قائد أفريكوم الجنرال داغفين أندرسون.
لماذا يغيّر لقاء الحداد– أفريكوم قواعد اللعبة؟..
هذا اللقاء ليس حدثًا تقنيًا في ملف التدريب العسكري، بل تحول استراتيجي واسع الدلالة.
أولًا: أمريكا تتحرك لكبح تمدد حفتر وروسيا؛
واشنطن لا تريد: دولة شرق ليبيا المستقلة. ولا تريد سيطرة فاغنر على سرت والهلال النفطي. ولا تريد نموذجًا عسكريًا عائليًا مدعومًا من الإمارات.
لذلك كان دعمها للحداد رسالة واضحة: هناك جيش شرعي نريد دعمه… وليس جيش حفتر.
ثانيًا: تقوية طرابلس لتحسين التوازن أمام المشروع الموازي. دعم التدريب والقدرات القتالية والاستخبارية للحداد يعني:
رفع كفاءة مؤسسة الجيش الرسمية.
خلق ضغط ميداني وسياسي على مشروع الرجمة.
إعادة طرابلس إلى موقع المبادرة لا الدفاع فقط.
ثالثًا: رسالة مباشرة لأبوظبي والقاهرة
أمريكا تقول للمحور الداعم لحفتر:
“لستم وحدكم اللاعبين في ليبيا بعد الآن.
رابعًا: إضعاف حجة “الجيش الموحد تحت قيادة حفتر”. واشنطن تعرف أن تركيبة قوات حفتر ليست “جيشًا وطنيًا”، بل بنية عسكرية عائلية، ولذلك لن تسمح له بأن يصبح “القائد العام” دون إطار سياسي ودستوري متوافق عليه.
كيف يؤثر ذلك على مشروع حفتر؟
اللقاء يضرب ثلاث ركائز أساسية من مشروع حفتر:
1- احتكار القوة العسكرية مع دخول أمريكا على خط التدريب، يصبح الغرب أكثر قدرة على فرض توازن ردعي.
2- التمهيد لتوريث الحكم شرقًا.
تعزيز الجيش النظامي في طرابلس يضعف قدرته على تثبيت أبناءه كقادة شرعيين.
3- مشروع التقسيم الناعم. القوة الأمريكية تشكل عامل ردع ضد أي محاولة لفرض “حدود سياسية” في الشرق.
“السيناريوهات القادمة”
السيناريو المرجّح: تثبيت الدولة ومنع التقسيم. بدعم أمريكي، ووجود جيش شرعي متطور، واحتمال ضوابط دولية على النفط والموانئ.
سيناريو شرق مستقل مع تعطيل كامل للاعتراف الدولي. مشروع صعب لكن الإمارات وروسيا قد تستمر في دعمه.
سيناريو مفاوضات تُفضي إلى جيش موحد دون سيطرة حفتر. الضغوط الدولية قد تنتج نموذجًا هجينًا يعيد تشكيل المؤسسة العسكرية.
سيناريو صراع داخل الشرق نفسه
بسبب صدام مصالح الأبناء، وتعارض الإمارات مع روسيا في سرت–الجفرة.”الخلاصة الاستراتيجية”
منذ 2014، تحوّل حفتر من قائد منشق إلى مركز مشروع تقسيم مدعوم إقليميًا.
حاول السيطرة على الدولة وفشل، فانتقل إلى بناء “دولة شرق ليبيا”.
روسيا تمددت… والإمارات ثبّتت نفوذها… ومصر احتفظت بورقة ضغط.
لكن دخول أمريكا مؤخرًا- عبر لقاء الحداد- أفريكوم- يمثل عودة ثقيلة الوزن قد تعيد رسم موازين القوى من جديد.
ليبيا تقف اليوم بين خيارين: مشروع دولة ليبية موحدة تنسجم مع الشرعية الدولية.
ومشروع كيان شرقي برعاية إقليمية يكرس الانقسام ويفتح الباب لتدخلات لا تنتهي.
والراجح اليوم أن واشنطن لن تسمح بسهولة بقيام دولة شرق ليبيا، وأن المؤسسة العسكرية في طرابلس أصبحت جزءًا من معادلة دولية جديدة قد تغيّر المشهد الليبي خلال الشهور القادمة.





