مقالات وآراء

معصوم مرزوق يكتب: السعودية والصهيونية (5 من 6) : لقاء الملك عبد العزيز وتشرشل.. لحظة حاسمة ورفضٌ لا يلين

فوجئ تشرشل في يالطا بأن روزفلت يخطط للقاء الملك عبد العزيز بعد المؤتمر، ووفقًا لإيدي فان ذلك «أشعل جنون خطوط البرق من تشرشل لدبلوماسييه» لترتيب لقاء مماثل لنفسه مع الملك .. وقد حصل على لقائه، بل ونجح في إقناع الملك بترتيب عودته إلى السعودية على متن سفينة بريطانية بدلًا من سفينة أمريكية، لكن النتائج جاءت عكسية لأن الملك لم يشعر بالإرتياح لتشرشل، فقد وجده متعجرفًا وغير محترم، في الأمور الكبيرة والصغيرة علي حد سواء.

ووفقاً للوثائق السرية البريطانية، بعد أن التقي تشرشل مع الرئيس روزفلت، غادر  السفينة كوينسي ونُقِل إلى القاهرة، ومن هناك، في 17 فبراير، توجه عبر الصحراء إلى فندق “دو لاك” على بحيرة الفيوم، حيث كان ابن سعود مقيماً.

على عكس روزفلت، الذي احترم رغبة الملك وامتنع عن التدخين في حضرته، فعل تشرشل العكس تمامًا، بل وكما كتب فيما بعد في مذكراته حول هذا اللقاء : “أنه إذا كانت ديانة جلالته تحرّمه من التدخين وشرب الكحول، فلا بد أن أشير أنا أيضاً إلى أن لدي قاعدة  في حياتي تفرض عليّ طقسا مقدسا مثله تمامًا يتمثل في تدخين السيجار وشرب الكحول قبل كل الوجبات وبعدها، وإذا لزم الأمر أثناءها وفي الفترات بينها” .. ثم نفث دخان سيجاره في وجه الملك.

ليس هذا فحسب ، وإنما وأثناء رحلة العودة، وجد الملك طعام البحرية البريطانية غير مستساغ، وضباطها مملّين؛ فلم يضاهوا العروض النارية المسلية التي قدمها الأمريكيون.. وبينما أسعدته الطائرة التي أهداها إليه روزفلت، استاء من السيارة الرولزرويس التي تلقاها من تشرشل لأن مقودها كان على اليمين، وهو ما كان سيُلزمه بالجلوس إلى يسار السائق، وهي منزلة يُنظر إليها كموقع أدنى، ولذلك لم يستخدم تلك السيارة قط.

عند عودة “إيدي” إلى جدة، استدعاه الملك إلى اجتماع خاص قال فيه – وفقًا لما أبلغه إيدي لوزارة الخارجية الأمريكية – إنه يمدح روزفلت وينتقد تشرشل. حيث قال الملك: “إن الفارق بين الرئيس روزفلت والسيد تشرشل كبير جدًا، فالسيد تشرشل يتحدث بمراوغة، ويتجنب إبداء الفهم، ويغيّر الموضوع ليتفادى الالتزام، مما يجبرني مرارًا على إعادته إلى النقطة الأساسية.. أما الرئيس روزفلت، فسعيه في الحديث هو الرغبة في الفهم؛ وجهده أن تلتقي العقول، وأن يبدد الظلام ويلقي الضوء على الأمر”، وختم الملك بقوله: “لم ألتقِ نظيرًا للرئيس في الخُلق والحكمة واللطف”، وأثار مجددًا استياءه من تشرشل، الذي قال إنه حاول أن يضغط عليه بخصوص فلسطين. وفي تقريره إلى واشنطن، قدّم إيدي هذا التلخيص لكلمات الملك التي وصف بها مقابلته مع تشرشل:

“بدأ السيد تشرشل الحديث بثقة، وهو يلوّح لي بالعصا الغليظة التي بيده، ويذكرني آن بريطانيا قد دعمتني وعاضدتني لمدة عشرين عامًا، وجعلت استقرار حكمي ممكنًا عبر صدّ الأعداء المحتملين عن حدودي، وبما أن بريطانيا قد وقفت إلى جانبي في أيام الشدة، فإن من حقها الآن أن تطلب مساعدتي في مشكلة فلسطين، حيث يمكن لزعيم عربي قوي أن يضبط العناصر العربية المتطرفة، وأن يصرّ على الاعتدال في المجالس العربية، وأن يُحدث تسوية واقعية مع الصهيونية، حيث أن على الجانبين تقديم تنازلات، وهو ينظر إليّ لأساعد في إعداد التنازلات العربية ” .

وأوضح الملك أنه قال لتشرشل:”كما تعلم جيدًا، لم أخفِ يومًا صداقتي وامتناني لبريطانيا، وهي صديقة ولطالما كنت مستعدًا لمساعدتها وسأظل أساعدها والحلفاء ضد أعدائهم” ، لكنني قلت له: “إن ما يقترحه ليس مساعدة لبريطانيا ولا الحلفاء، بل هو عمل يمثل خيانة للرسول ولجميع المسلمين المؤمنين، عمل يمحو شرفي ويدمر روحي. فلا يمكنني القبول بتسوية مع الصهيونية، فضلًا عن أن أبادر بها. ثم أوضحت له أنه حتى في بإفتراض أنني كنت سأوافق، فلن يحقق ذلك فائدة لبريطانيا، إذ إن تعزيز الصهيونية من أي جهة سيؤدي بلا شك إلى سفك الدماء والفوضى الواسعة في البلاد العربية، دون فائدة لبريطانيا أو لغيرها” .

وعند هذه النقطة – كما كتب إيدي – كان السيد تشرشل قد وضع عصاه الغليظة جانبًا.

واستطرد الملك أنه بدوره طلب من تشرشل ضمانًا بوقف الهجرة اليهودية إلى فلسطين وقد رفض تشرشل أن يَعِد بذلك، رغم أنه طمأن الملك بأنه سيعارض أي خطة للهجرة تؤدي إلى طرد العرب من فلسطين أو حرمانهم من سبل عيشهم هناك.

وقال الملك: “ذكّرته بأن البريطانيين وحلفاءهم عليهم أن يختاروا بين خيارين:

(1) عالم عربي صديق ومسالم، أو

(2) صراع حتى الموت بين العرب واليهود إذا استؤنف تدفّق الهجرة اليهودية غير المعقولة إلى فلسطين.

وفي كل الأحوال، يجب أن تكون الصيغة المقترحة صيغة يتوصل إليها العرب وبموافقتهم.”

ومن ناحية أخري، كان أحد المسؤولين البريطانيين الحاضرين في الفيوم “لورنس غرافتـي سميث”، الوزير المعيّن حديثاً لدى المملكة العربية السعودية، والذي كان في طريقه إلى الرياض. وقد تذكّر لاحقاً أن تشرشل أخبره قبل لقائه بابن سعود بأنه، احتراماً لرأي إيدن ووزارة الخارجية، لن يذكر موضوع فلسطين أمام الملك .

لم يكن من المُقدَّر أن تُدفَع المملكةُ الغنيّة بالنفط إلى أحضان الولايات المتحدة. وقد عبّر غرافتـي سميث لاحقاً، وبشيءٍ من الفخر، عن أنه نجح في إقناع تشرشل بعدم التطرّق إلى موضوع فلسطين.

والواقع كان غرافتـي سميث كما أثبتت الوثائق، مخطئاً.. فخلال محادثة تشرشل مع ابن سعود، كما أبلغ تشرشل نفسه مجلس الحرب بعد يومين، قام بإثارة مسألة فلسطين من دون مواربة.. وكما ورد في مذكرة  مجلس الحرب، فإن تشرشل “دافع عن قضية اليهود أمام جلالته، ولكن من غير أن يحدث ذلك – في تقديره – أثراً كبيراً، بينما كان ابن سعود يستشهد بالقرآن من الجانب الآخر، غير أن تشرشل لم يُخفق في أن يوضّح للملك مدى الأهمية التي نُعطيها لهذه المسألة”(محاضر مجلس الحرب، 19 فبراير 1945: أوراق المجلس، 65/51) .

الرواية الرسمية وفق الوثائق السرية البريطانية ، لما دار بين تشرشل وابن سعود والتي ظلّت سرية حتى عام 2006، حين أمكن إتاحتها، تُظهر أنه في بداية النقاش أوضح ابن سعود لتشرشل أن «موقفه كان صعبًا للغاية. فاليهود في فلسطين كانوا يزدادون عددًا باستمرار؛ بل إنهم كانوا يشكّلون نوعًا من الحكومة الخاصة بهم، لها رئيس وزراء ووزير خارجية ووزير دفاع. كما أنهم شكّلوا قوة عسكرية قوامها 30,000 رجل مزوّدين بأسلحة ومعدات حديثة. وهكذا أصبحوا خطرًا كبيرًا على العرب».

وأضاف الملك أنه «لو كان الأمر مجرد مسألة بين اليهود والعرب، لقاتل العربُ اليهودَ، وحتى إن لم ينتصروا لما كانوا ليبالوا لأنهم سيذهبون إلى الجنة». وقد ظلّ ينصح العرب دائمًا بالاعتدال فيما يخص فلسطين، «لكنه كان يخشى أن يحدث صدام، وعندها سيجد نفسه في موقف بالغ الصعوبة». ولم يكن يرغب في الانخراط في مثل هذا النزاع، الذي من شأنه أيضًا أن يُدخل السعودية في صراع مع بريطانيا.

سعى تشرشل إلى طمأنة ابن سعود بأن بريطانيا لن تسمح لليهود بمهاجمة العرب بقوات مسلحة. وقال: «نحن نسيطر على البحار ويمكننا بسهولة حرمانهم من الإمدادات. ولكن في الوقت نفسه يجب أن يكون لليهود مكان يعيشون فيه – أي في فلسطين- مدعياً ( وهو كاذب ) أنه لم يكن يومًا من أنصار أن تكون فلسطين وطنًا قوميًا، بل مجرد أن يكون هناك مجرد وطن قومي في فلسطين».. وأشار تشرشل إلى أن العمل الذي قام به اليهود في استصلاح مناطق صحراوية في فلسطين ، وقال أن ذلك «كان مفيدًا للعرب، إذ زاد من عدد سكانهم ورفاهيتهم». وأعرب عن أمله في أن يعتمد على مساعدة الملك في تعزيز التوصل إلي  «تسوية محددة ودائمة» بين اليهود والعرب.

قال ابن سعود لتشرشل في النهاية إنه «يعتمد على صداقة بريطانيا مع العرب وعلى عدالة بريطانيا». وفي المقابل، أكّد له تشرشل «صداقتنا للعرب»، مشيرًا إلى «أننا قدّمنا الكثير للعرب منذ الحرب الأخيرة من خلال إنشاء الدول العربية في العراق وشرق الأردن ” ولكنه كان يشعر ” بأنه لا يستطيع أن يرضي ابن سعود فيما يخصّ فلسطين بشكل كامل “.( محادثات القاهرة، فبراير 1945  أوراق رئيس الوزراء، 4/77/1A) .

المزيد

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى