
“قراءة تحليلية استراتيجية للمشهد الأميركي– الإسرائيلي– السعودي بعد حرب غزة”
تشهد المنطقة اليوم واحدة من أكثر لحظاتها تقلبًا منذ عقود، حيث تتقاطع الانتخابات الأميركية، وانهيار الردع الإسرائيلي، وطموحات السعودية الإقليمية، مع محاولة واشنطن إعادة ضبط الشرق الأوسط بما يخدم مصالحها في مرحلة ما بعد حرب غزة. وفي قلب هذا المشهد يقف سؤال كبير: هل تخلّى ترامب عن نتنياهو؟ وهل أصبح نتنياهو عبئًا على مشروع التطبيع وعلى الاستراتيجية الأميركية؟ وما طبيعة الصفقة الجديدة التي يجري إعدادها بين واشنطن والرياض وتل أبيب؟
ترامب يدعم إسرائيل وليس نتنياهو.
فمنذ بداية حملته الانتخابية، أظهر ترامب ميلاً واضحًا للفصل بين دعم إسرائيل ككيان وبين دعم نتنياهو كشخص. فالرجل يدرك أن الرأي العام الأميركي– خصوصًا الشباب والجامعات– يعيش حالة صدام حاد مع سياسات الاحتلال في غزة، وأن نتنياهو بات عنوانًا للأزمة التي تُحرج الجمهوريين والديمقراطيين معًا.
ترامب لا يستطيع التخلي عن إسرائيل لأنها قاعدة الصهيونية المسيحية التي تمثل عمودًا رئيسًا لقاعدته الانتخابية، لكنه في الوقت ذاته يدرك أن استمرار الدعم المطلق لنتنياهو يكلّفه خسائر انتخابية كبيرة. لذلك لجأ إلى معادلة جديدة: “ندعم إسرائيل… لكن نتنياهو ليس فوق النقد.”، وتصريحاته بأن “نتنياهو خذل أميركا يوم اغتيال سليماني” كانت رسالة للمانحين والمفكرين الجمهوريين: “لست أسيرًا لنتنياهو، ولن أسمح له بإدارة سياستي الخارجية.”، وفي هذا معنى واضح: ترامب يريد إسرائيل قوية.. لكنه يريد نتنياهو أضعف.
أما السعودية فهى تفاوض واشنطن وليس نتنياهو. محمد بن سلمان لا يفاوض نتنياهو، بل يفاوض البيت الأبيض مباشرة.
- والتطبيع بالنسبة للسعودية ليس جائزة رمزية، بل مكسب استراتيجي يتضمن:
- اتفاق دفاع مشترك مع واشنطن، على غرار اتفاق اليابان أو كوريا الجنوبية.
- برنامج نووي سعودي بقدرات محليةوتخصيب داخل السعودية تحت إشراف تقني أميركي.
- دور سعودي مركزي في ترتيب المنطقة خصوصًا في ملف غزة والضفة والبحر الأحمر.
- ضمانات لوقف الاستيطان وإجراءات حقيقية تجاه الدولة الفلسطينية.
هذه الشروط أكبر من أن يقدمها نتنياهو، الذي يعيش أسوأ أزماته السياسية والجنائية. وبالتالي، فالسعودية ترسل إشارة واضحة:
“نحن نبرم اتفاقًا مع أميركا.. ومن يحكم إسرائيل لاحقًا هو مجرد منفّذ.”، ولهذا، لا تتردد الرياض في الانتظار حتى ما بعد نتنياهو إذا لزم الأمر.
ويبدو أن واشنطن تعيد صياغة الصفقة بنسخة ثانية من صفقة القرن، فما يجري اليوم هو النسخة المعدّلة من “صفقة القرن”.
لكن الفارق كبير:
النسخة الأولى (ترامب – 2020): كانت خطة أميركية إسرائيلية لفرض حل على الفلسطينيين.
النسخة الثانية (2025): هي خطة أميركية سعودية لإعادة هندسة الشرق الأوسط، وإسرائيل فيها ليست اللاعب الأول بل أحد الأطراف.
عناصر الخطة الجديدة:
إنشاء تحالف أمني عربي– أميركي– إسرائيلي لاحتواء إيران والصين.
إيجاد إدارة عربية– فلسطينية مشتركة لغزة بعد وقف الحرب.
فرض إصلاح كبير على السلطة الفلسطينية بدعم دولي.
استبدال نتنياهو أو تحجيمه لأن واشنطن ترى أنه يعرقل التسوية.
إعادة ترتيب خط السلام بما يحفظ أمن إسرائيل لكنه يخفف الاحتقان الدولي.
الولايات المتحدة تريد منطقة مستقرة لتركّز على الصين، لذلك لم تعد تحتمل مغامرات نتنياهو أو حساباته الداخلية.
احتمال السقوط يتزايد مع الانتخابات الاسرائيلية.. وشواهد مظاهر الانهيار السياسي الداخلي في إسرائيل تدفع نحو انتخابات مبكرة:
تصاعد غضب عوائل الأسرى بشكل غير مسبوق.
تمرد واسع داخل جيش الاحتياط.
تفكك الحكومة، وصدام بين نتنياهو والجيش والشاباك.
ضغط اقتصادي شديد بعد خسائر القطاع التقني والاستثمارات.
رغبة أميركية واضحة في تغيير القيادة.
واشنطن تدرك أن أي صفقة إقليمية كبرى لا يمكن تمريرها بوجود نتنياهو، لأنها ستُفسر كـ”إنقاذ سياسي” لرجل فقد شرعيته.
ولذلك، تعمل الإدارة الأميركية على سيناريو يُخرجه تدريجيًا دون أن يهتز النظام السياسي الإسرائيلي.
وتوسيع الحرب.. استراتيجية بقاء لنتنياهو. نتنياهو لا يحرق غزة أو يتوسع في الضفة من أجل “إنجاز قومي”، بل من أجل تأجيل سقوطه.
كل خطوة يتخذها تحمل هدفًا واحدًا: “لا انتخابات الآن… نحتاج حربًا أكبر.”
من تكتيكاته: محاولة دفع حزب الله لمواجهة تُعيد خلط الأوراق.
تصعيد الاغتيالات في الضفة.
فرض وقائع ميدانية تمنع أي تسوية سياسية.
خلق أزمات مع واشنطن ليظهر كمدافع عن “أمن إسرائيل” أمام اليمين.
تحويل الحرب إلى قضية بقاء وجودي، وليس بقاء شخصي.
لكن المشكلة أن هذه الاستراتيجية تصطدم بثلاثة جدران:
1- الجيش بات يحمّل نتنياهو مسؤولية الفشل.
2- المجتمع الدولي لم يعد يحتمل الوحشية الإسرائيلية.
3- أميركا نفسها بدأت تضغط بقوة وتفرض خطوطًا حمراء.
“الخلاصة الاستراتيجية”
المشهد اليوم ليس صراعًا بين دول، بل بين استراتيجيات متصادمة:
السعودية تبني مشروعًا إقليميًا جديدًا لا يمر عبر نتنياهو.
ترامب يريد كسر العلاقة مع نتنياهو دون أن يخسر إسرائيل.
أمريكا تعيد رسم الشرق الأوسط استعدادًا لمواجهة الصين.
إسرائيل تعيش أخطر لحظة وجودية منذ تأسيسها.
نتنياهو يقاتل لتأجيل سقوطه عبر توسيع الحرب.
“خطة السلام” الجديدة ستولد بعد تغيير القيادة الإسرائيلية.. لا قبل ذلك.. بمعنى آخر: لم يتخلَّ ترامب عن إسرائيل، لكنه بدأ يخلع نتنياهو.
ولم ترفض السعودية التطبيع، لكنها ترفض أن يكون جسرًا لإنقاذ نتنياهو.
وواشنطن لا تبحث عن سلام، بل عن إعادة تشكيل المنطقة بما يخدم تحولها الاستراتيجي.







