
تعيش مصر منذ سنوات حالة غير مسبوقة من العزوف الشعبي عن المشاركة السياسية، يتجلى أكثر ما يتجلى في ضعف الإقبال على الانتخابات رغم كل أدوات الحشد والتعبئة التي تستخدمها السلطة. لم تعد الانتخابات حدثًا سياسيًا يترقبه الناس، ولا مناسبة وطنية تستدعي المشاركة، بل أصبحت لدى قطاعات واسعة مجرد “إجراء إداري” بلا مضمون. وفي خضم هذه الحالة، تأتي المقاطعة الشعبية للانتخابات كأبرز ظاهرة سياسية تعبّر عن المزاج العام، وتكشف بدقة حجم الشرخ العميق بين الدولة والمجتمع.
المقاطعة هنا ليست مجرد غياب عن اللجان، بل هي لغة سياسية كاملة، ورسالة صامتة لكنها أكثر وضوحًا من أي احتجاج. وهي – رغم صمتها – تقول الكثير عن مستقبل الشرعية، وعن حدود قدرة النظام على التحكم في المجال العام، وعن طبيعة التوازن بين السلطة والمجتمع في اللحظة الراهنة.
على الرغم من محاولات النظام المستمرة لتجميل نسب المشاركة، فإن الحقيقة التي تدركها السلطة قبل غيرها هي أن الانتخابات لم تعد تمنحها الشرعية التي ترجُوها. فالمشاركة الشعبية لم تعد تعبيرًا عن تأييد أو دعم، بل أصبحت مرآة تكشف حجم الفجوة بين الدولة والناس. تراجع الإقبال يعني ببساطة أن الجمهور لم يعد يرى في العملية الانتخابية أداة للتغيير أو وسيلة للتأثير، وأن الناس باتوا يتعاملون مع السياسة كمساحة مغلقة، محكومة سلفًا، لا جدوى من الاقتراب منها.
هذا الغياب الواسع لا يمكن للنظام الاعتراف به، لكنه يعرفه تمامًا؛ فالأجهزة الأمنية والإدارية ترصد بدقة نسبة التصويت الحقيقية، وتعرف أن ما يُعلن لا يعكس الواقع. وهذا الإدراك الداخلي بوجود أزمة شرعية هو أكبر مما يكشفه الخطاب الرسمي، لأنه يضع النظام أمام سؤال صعب: كيف يمكن حُكم مجتمع لم يعد يؤمن بجدوى العملية السياسية؟
أمام هذا العزوف الجماعي، تلجأ السلطة إلى ما يمكن وصفه بـ هندسة المشاركة: نقل موظفين في سيارات جماعية، إجبار إداري واضح في المؤسسات الحكومية، حشد عبر مسؤولي المحليات، ثم شراء أصوات بالدعم المالي والعيني. هذه الممارسات لا تُظهر قوة الدولة، بل تكشف مدى هشاشة حضورها الشعبي؛ فالنظام الذي يعتمد على الحشد القسري والمال السياسي يعلم جيدًا أنه لا يملك التأييد الطبيعي الذي يُفترض أن تحظى به أي سلطة مستقرة.
وبدل أن تكون الانتخابات مناسبة لقياس المزاج العام، تصبح في مصر مناسبة لقياس مدى قدرة الأجهزة على تحريك الناس قسرًا. وهنا تتبدل وظيفة الانتخابات: من تجديد الشرعية إلى استعراض السيطرة، ومن الحوار مع المجتمع إلى فرض المشهد عليه. وهذا التحول هو في حد ذاته علامة على تآكل الشرعية الفعلية، وتحولها إلى شرعية شكلية تُدار من أعلى إلى أسفل.
واحدة من أخطر دلالات المقاطعة هي أنها تعبّر عن انفصال كامل بين الدولة والمجتمع. الدولة تعيش في عالم، والناس في عالم آخر. العاصمة الإدارية — كرمز معماري وسياسي — تجسد هذا الانفصال؛ فهي مدينة محصنة منعزلة عن مصر الحقيقية، تعيش فيها السلطة، بينما يعيش الشعب واقعه المختلف تمامًا: غلاء، أزمات، نقص خدمات، وانعدام أفق سياسي.
المقاطعة هنا ليست فعلًا سياسيًا فقط، بل هي تعبير اجتماعي عن هذه الهوّة. المواطن الذي لا يجد لغة مشتركة مع خطاب الدولة، والذي يرى أن الدولة لا تمثله ولا تستمع إليه، يجد في المقاطعة وسيلة لإعلان رفضه دون مواجهة مباشرة. وهكذا تتحول المقاطعة إلى استفتاء شعبي صامت يكشف عمق أزمة الثقة المتبادلة.
كانت الانتخابات في النظم السلطوية أداة لإظهار الاستقرار. أما اليوم، فقد أصبحت في مصر مؤشرًا على الهشاشة؛ فكل استحقاق انتخابي يتحول إلى عبء على النظام، ومناسبة تكشف حجم الغضب والسخط الكامن، وحجم الجهد المطلوب لصناعة مشاركة شكلية. انخفاض الإقبال يدفع السلطة إلى زيادة التدخل الإداري، ما يؤدي إلى المزيد من التعري أمام الداخل والخارج، ويعيد كل مرة سؤال الشرعية إلى الواجهة.
كما أن المجتمع الدولي أصبح يرصد هذه الظاهرة بوضوح، ويرى في ضعف المشاركة مؤشراً على تآكل الثقة الداخلية، وعلى أزمة حكم لا تُحل عبر الإجراءات الأمنية أو الحملات الإعلامية.
ربما أهم ما يميز المقاطعة أنها فعل سياسي غير قابل للقمع؛ فالنظام يستطيع منع الاحتجاجات واعتقال النشطاء وإغلاق المجال العام، لكنه لا يستطيع إجبار ملايين على الذهاب إلى اللجان. المقاطعة بهذا المعنى هي شكل من أشكال المقاومة المدنية الصامتة التي تتجاوز قدرة الأجهزة على السيطرة أو التحكم.
هذا النوع من المقاومة يستنزف النظام لأنه يجبره على استخدام قدر كبير من الموارد لتصنيع مشهد انتخابي لا يعكس الحقيقة. وهي رسالة واضحة بأن الشرعية لا تُنتزع بالقوة ولا تُصنع بالدعاية، بل تُبنى فقط حين يشعر الناس بأنهم شركاء حقيقيون.
المقاطعة الانتخابية في مصر اليوم ليست مجرد موقف سياسي عابر؛ إنها تعبير عن لحظة وعي يرفض فيها المواطن المشاركة في مشهد لا يثق فيه، ويعلن خلالها — بصمت — أن الشرعية لا تُفرض من أعلى. إنها رسالة قوية بأن المجتمع لا يزال حيًا، وأن السياسة لم تمت مهما حاولت السلطة إغلاقها. وفي ظل اتساع هذه الظاهرة، تبدو مصر أمام مفترق طرق: إما إعادة بناء علاقة جديدة بين الدولة والمجتمع تقوم على المشاركة والتمثيل، أو استمرار تآكل الشرعية حتى اللحظة التي قد يصبح فيها الصمت نفسه انفجارًا.





