
لم يعد ما يجري في معبر رفح تفصيلًا على هامش الحرب، ولا مجرد أزمة لوجستية مرتبطة بإدخال المساعدات أو خروج الجرحى. ما يحدث هناك اليوم هو إعادة تشكيل حقيقية لميزان القوى، وإعادة ترسيم لحدود السيادة، وتثبيت لواقع جديد على الأرض يراد له أن يصبح جزءًا من “الشرق الأوسط الجديد” الذي تُهندسه إسرائيل والولايات المتحدة بقوة السلاح وتحت غطاء “الأمن الإقليمي”.
العدوان والغطرسة الإسرائيلية،
والتصرّف الإسرائيلي عند معبر رفح وممر فيلادلفيا يكشف بوضوح مشروع السيطرة الكاملة على حدود غزة مع مصر. الاحتلال لم يكتفِ بمحاصرة القطاع من البحر والجو، بل انتقل إلى خطوة أبعد: السيطرة المباشرة على الممر الحدودي الذي كان– وفق اتفاقيات السلام– منطقة منزوعة السلاح لا يُسمح بتغيير وضعها إلا باتفاق مشترك.
بهذه السيطرة، فرضت إسرائيل صيغة أحادية: معبر يُفتح في اتجاه واحد.. للخروج فقط.
معبر يتحول من بوابة الحياة إلى بوابة التهجير.
وممر حدودي يتحوّل من حاجز فصل إلى منطقة احتلال صريحة، تصادر السيادة المصرية وتغلق المجال الفلسطيني بالكامل.
الهوان المصري.. والمأزق الاستراتيجي، لا يخفي أحد حجم الضغط الذي تتعرض له مصر. الاحتلال يستغل الحرب ويتعمّد دفع مئات الآلاف جنوبًا ليضع القاهرة أمام معادلة شديدة القسوة: إما فتح الحدود واستيعاب الفلسطينيين،
أو تحمّل تبعات حصارهم تحت النار.
هذه المعادلة ليست إنسانية بل سياسية. قبول خروج الفلسطينيين يعني عمليًا المشاركة– ولو عن غير قصد– في أكبر عملية تهجير قسري منذ النكبة. ورفض فتح الحدود دون إعادة فتح المعبر في الاتجاهين يُستخدم كذريعة لاتهام مصر بأنها “تغلق الباب في وجه المدنيين”. إنها لعبة هندسة صورة إعلامية، هدفها دفع القاهرة إلى مواقع دفاعية، وتحميلها مسؤولية نتائج حصار لم تصنعه.
الهوان هنا ليس في موقفٍ مصريّ معلن، بل في واقع يُفرض بالقوة ويكشف حدود القدرة الرسمية على منع الاحتلال من العبث بالحدود والسيادة والاتفاقات.
نقض للاتفاقات.. ونسف للمعادلات
معاهدة السلام المصرية– الإسرائيلية بُنيت على مبدأ أساسي: أمن الحدود مقابل احترام السيادة. اليوم، إسرائيل تنقض هذا الأساس. سيطرتها العسكرية على ممر فيلادلفيا تعني تعديلًا فعليًا للملحق الأمني دون تفاوض، ودون تنسيق، ودون احترام للحد الأدنى من الالتزامات القانونية.
هذا السلوك يمهّد لسابقة خطيرة: إذا استطاعت إسرائيل أن تغيّر وضع هذه المنطقة الحساسة بالقوة، فما الذي يمنعها من توسيع وجودها أو استخدام “الأمن الحدودي” لاحقًا كورقة ضغط على مصر في ملفات الطاقة والغاز والمياه والممرات البحرية وملفات إقليمية أخرى؟
“القضية الفلسطينية بين التهجير وإعادة الهندسة”
أخطر ما يجري عند المعبر هو أن الاحتلال يريد تحويل غزة من “أرض مقاومة” إلى “أرض فارغة”. فتح المعبر للخروج تحت القصف والتجويع ليس عملًا إنسانيًا بل جزءًا من استراتيجية تفريغ القطاع من سكانه.
التهجير لا يُعلن عنه رسميًا؛ يُصنع بالحصار، بالقصف، بخلق بيئة تجعل البقاء مستحيلًا. وما معبر رفح بصيغته الحالية إلا أداة في هذا المشروع: ممر مقنّع للترانسفير، يُسمّى “معبرًا إنسانيًا”، بينما هو في جوهره معبر اقتلاع.
خروج عشرات الآلاف من الفلسطينيين– بلا ضمانات للعودة– يعني تغييرًا ديموغرافيًا خطيرًا ينسف حق العودة، ويحوّل غزة من جزء مركزي في الصراع إلى عبء إنساني على مصر والمجتمع الدولي.
وهنا نقول؛ الشرق الأوسط الجديد.. من رؤية إلى واقع بالقوة، السيطرة على رفح ليست منفصلة عن مسار إقليمي أوسع. المشروع الذي يجري تنفيذه اليوم يقوم على ثلاثة أعمدة:
إعادة تعريف حدود إسرائيل الأمنية بحيث تشمل الممرات والمعابر ومسارات الطاقة.
تقليص مركزية القضية الفلسطينية وتحويل الفلسطينيين إلى “سكان منكوبين” بدل شعب صاحب قضية وطنية.
دمج إسرائيل في المنطقة بوصفها مركزًا أمنيًا واقتصاديًا لا يمكن تجاوزه في الغاز والنقل البحري وممرات التجارة.
هذه الرؤية التي بدأت منذ “صفقة القرن” لم يعد منها إلا روح واحدة: وضع الاحتلال في قلب كل معادلة إقليمية، وإضعاف الفلسطينيين والمصريين والعرب أمامه ليصبح هو الطرف الوحيد القادر على فرض شروط السلام والحرب والحدود.
الأمن القومي المصري عند لحظة الاختبار، سيناء ليست مجرد صحراء، بل صمام الأمان للدولة المصرية. ما يجري عند رفح يضع سيناء أمام ثلاثة مخاطر متوازية:
خطر التورّط في ملف لاجئين مفتوح قد يتحوّل إلى عبء اقتصادي وأمني طويل الأمد.
خطر تهديد السيادة المصرية عندما تصبح الحدود تحت إدارة الاحتلال أو بإشرافه.
خطر تآكل الردع المصري أمام شعبه وأمام الإقليم إذا لم يُعَد ضبط ميزان القوى على الحدود.
هذا لا يعني الذهاب إلى مواجهة، لكنه يعني أن الصمت أو قبول الأمر الواقع سيحوّلان سيناء إلى منطقة في المجهول، وغزة إلى أرض بلا شعب، وهو ما يفتح الباب لتحولات تستمر عقودًا.
معبر رفح.. بوابة حرب لا بوابة حياة.
في المحصلة المعركة حول رفح ليست معركة إنسانية بل استراتيجية. إنها مواجهة حول من يملك حق التحكم في حدود دولة عربية كبرى، ومن يقرر مصير أكثر من مليوني فلسطيني، ومن يرسم شكل الشرق الأوسط القادم.
إسرائيل تريد أن تنتصر في هذه المعركة لتفرض خريطة جديدة بالقوة، بينما يتشكّل في المقابل وعي شعبي وإقليمي يرى أن ما يحدث عند رفح هو الامتحان الأخطر منذ عقود:
امتحان للسيادة المصرية،وامتحان للقضية الفلسطينية، وامتحان لمستقبل المنطقة كلها.
رفح اليوم ليست بوابة غزة وحدها، بل بوابة التاريخ. وإذا فُتحت في الاتجاه الخطأ، فلن تُغلق بسهولة مرة أخرى.







