مقالات وآراء

د.أيمن نور يكتب: من بيروت – للإسكندرية 5 ديسمبر طريق طويل للـ61

هناك لحظاتٌ لا تأتي كزوارٍ عابرين، بل كأبوابٍ تُفتح على عمرٍ كامل. لحظاتٌ تقف فيها الذاكرة كشيخٍ حكيم، يرفع عكازه في وجه السنين، ويقول لك:
هكذا مشيت…
وهكذا نجوت…
وهكذا سجنت…
وهكذا نُفيت…
وهكذا صرتُ.

في هذا الصباح، 5 ديسمبر 2025، تلوح بيروت أمامي كقنديلٍ على حافة بحر، أقرب العواصم إلى إسكندرية التي أنجبتني منذ واحدٍ وستين عامًا، وكأن البحر المتوسط بينهما مرآةٌ تعيد إليّ صور حياتي من الضفة الأخرى…إلى أول وجهةٍ في سنوات المنفى.

يبدأ العمرُ اليوم صفحةً جديدة، لكن صوته ليس جديدًا. فيجيء (5 ديسمبر) كما جاء دائمًا:
محمّلًا بوشوشاتٍ قديمة وجديدة، بصدقٍ لم يخفت، وبوجعٍ تعوّد أن يربّي الحكمة في القلب.لا يشبه الأعياد ولا المناسبات…بل يشبهني (أنا) أكثر مما يشبه صورتي في أعينٍ لم ترَني.

في ليلة أول من أمس، وفي مقر المركز الثقافي المصري بالشرق في إسطنبول، أحاطني أبنائي وأحبّتي وأصدقائي بضحكاتٍ دافئة. قصدتُ أن أمازحهم، أن أعبّر لهم عن امتناني بقدر محبتي لهم.


لم يكن الاحتفال كبيرًا، لكنه كان أعمق من كل ضوضاء.
فتلك الوجوه الصغيرة والكبيرة — من أسرتي ومن «الشرق» — تضع بين يديّ معنى العمر الذي لا يُقاس بالسنوات، بل بمن يدخلون إليه مجددًا ليشاركونك به.

بعد ذلك الاحتفال، انتقلتُ وكامل أسرتي منذ ساعات من إسطنبول، لأقرب مدينةٍ إلى (إسكندريتي) — الأثيرة —
على الطرف المقابل من البحر.
فمن الحبيبة بيروت، وفي 5 ديسمبر 2025، أبدأ اليوم عامي الـ61.
وأشعر أن الخامس من ديسمبر ليس تاريخًا، بل يومٌ يفتح بوابات الضوء والوجدان، وشجن الوجدان والخلّان، يعيد ترتيب المعنى في داخلي كل عامٍ من جديد.

ستة عقودٍ وعام… كلما قلتها، شعرتُ أن الرقم أكبر مما توقعت وتمنيت، وأصغر من التجربة.
عمرٌ أمضيته محاولًا أن أكون جديرًا بوصيّة أبي عبدالعزيزنور وأمي معتصمة محمد محمود:
ألا أخاف من ظالم، وألا أتخلى عن مظلوم.

قرابة نصف قرن من العمل والهم العام؛
سياسيًا وحزبيًا وإعلاميًا ونيابيًا… لا لأن السياسة قدرٌ جميل، بل لأنها الطريق الأصعب الذي اختارني قبل أن أختاره.


رزنامةٌ عجيبةٌ لذلك اليوم في حياتي: ولدت في ديسمبر؛ شهرٍ يعرف كيف يختبر صلابة العظام حتى لو وهنت، ويعلّم القلوب أن الدفء يُصنع ولا يُهدى.
وربما لذلك… لم تهزّني العواصف التي مرّت عليّ، بل هذّبتني.
قلتُ منذ عقدين: (من يدخل الغابة لا يخشى حفيف الأشجار).

عشتُ موجاتٍ من الحفيف والظلم لا يقدر عليها إلا من عرف أن الله لا يخذل قلبًا أحبّ الناس وأحبّ الحب والعدل، ولم يكره يومًا إلا الكراهية. وما زلتُ أحمل ذلك اليقين كتعويذةٍ في جيبي.

أربعة عقودٍ ونيف خضتُ معارك بحجم وطن:
معارك طلابية، برلمانية، رئاسية… وخرجتُ منها كلها بشيء واحد:
أن الإنسان ينتصر حين لا يسمح للهزيمة أن تغيّر شكله الداخلي…ولو تغيّرت ملامحه.

خمس مراتٍ دخلت السجن. أطولها بعد انتخابات ٢٠٠٥.
لم يكن السجن سياجًا، بل دربًا آخر.
فهمتُ فيه أن الجدران لا تمنع الحرية…
ما دام العقل مطلًّا على رب السماء والأرض.

تعرضتُ في عامي المنصرم لنزيفٍ في عيني اليمنى منعني طوال عام 2025 من استخدام القلم، وفرض عليّ أن أُملي مشاعري بدلًا من أن أكتبها بيدي. ورغم ذلك، تمكنتُ من إصدار كتابي «أوراق من مذكّراتي» الذي جاء في سبعمائة صفحة، رغم كل تلك الظروف. وأتمنى أن تعيد لي الجراحة المقررة في مطلع 2026 متعة الإمساك بالقلم والكتابة به من جديد.

فالعمر عندي لا يُقاس بالسنوات، بل بعدد المرات التي سقطتَ فيها واقفًا، وعدد الأحلام التي قاومت الموت،
وعدد الجراح التي صارت أبوابًا للحكمة.

قال الراحل جمال خاشقجي مازحًا: “أنا و أيمن نور أصدقاء منذ ٥٠٠ عام.” واليوم، بعد ٦١ عامًا من السير، أصدق أن العمر لا يُقاس بالوقت بل بالأثر.

أمس، طبيبة بيروتية ملائكية
سألتني وهي تحقنني:
«هل تشعر بألم سِنّ الحقنة؟»
قلتُ لها وأنا أشير بالنفي برأسي، وأقول في سري:
«أشعر أكثر بألم سِنّ الحقنة من سِنّي!»

في روزنامة حياتي، الخامس من ديسمبر ليس سطرًا…
بل فصلًا كاملًا.
وُلدتُ فيه عام 1964.
وانتُخبت فيه رئيسًا لاتحاد طلاب الجمهورية عام 1979.
وانتُخبت نائبًا برلمانيًا 1995.
وكتبتُ فيه أول مقالاتي في الوفد.
واعتُقلت فيه.
وخرجتُ فيه.
وكأنه اليوم الذي يصرّ على أن يكون مرآتي… في كل مراحل حياتي.

أحلامي دائمًا كانت أكبر مني، وآلامي كذلك.
لكن الله كان أكبر من الاثنين، فحقق لي ما لم أحلم، وعلّمني ما لم أفهم.

حين كنت صغيرًا، كانت الكلمات مستقيمة كقضبان النور:
الحب يعني الحب،
الوطن يعني الوطن،
الصداقة تعني الصدق.
لم أكن أعرف أن الكلمات ستتكسر لاحقًا تحت أثقال البشر.

لم أتخيل أن حبّ الوطن قد يُتَّهم بالخيانة،
أو أن الصديق قد ينقلب إلى خنجر.
لكنني تعلمت أن الغدر امتحان،
والوفاء انتصار،
والصمت حكمة.

الطعنات صنعت مني ما لم تصنعه التصفيقات.
والظلم علّمني معنى العدل أكثر مما علّمني القانون.

في سنوات الوعي الأخيرة اكتشفتُ أن البطولة ليست في الصراخ، بل في النبرة الصادقة. وأن الشجاعة ليست في رفع الصوت، بل في رفع الضمير.

رأيتُ غاندي يثبت أن اللاعنف أقوى من الرصاصة،
ورأيتُ سقراط يحتسي السمّ دون أن ينحني،
ورأيتُ طهحسين يحاور العمى حتى انحنى له الضوء، ورأيتُ نجيب محفوظ يحوّل الحارة إلى دولة من المعاني.

كل هؤلاء غيّروا أفكارهم…
لأن النضج ليس تراجعًا،
بل صعودًا إلى قمةٍ أخرى من الرؤية.

لم أعد أرى في كل خصمٍ عدوًّا،
ولا في كل اختلافٍ معركة.
فالوطن أكبر من مزاج اللحظة.

السياسة كما صارت في داخلي اليوم…
هي مفاوضةٌ صامتة بين الضمير والمصلحة،
بين الفكرة الخالدة والواقع العابر.

الليبرالية ليست نقيض الإيمان،
بل هي رحمٌ يتسع لإنسانٍ خُلق حرًا.
وهي في جوهرها احترامٌ لقدرة العقل على رؤية ما وراء اللحظة.

الغضب لم يعد يستهويني.
فقد فهمتُ أن الأوطان تُبنى بالحكمة الباردة،
لا بالحماس الذي يحرق أصابعه.

كثير من الإعلاميين تاهوا في عدد المشاهدات.
يكتبون ويركضون خلف الضوء،
فيغرقون في الظلّ.

لذلك قلتها وأقولها:
ما يُكتب للزمن يبقى.
وما يُكتب للخوارزمية يموت في اليوم نفسه.

أبتسم اليوم للماضي لأنه ساعدني على النضج،
وأبتسم للمستقبل لأنه ينتظرني،
وأبتسم للحاضر لأنه — رغم قسوته — الطريق الحقيقي إلى الله.

تغيّرت..لا ضعفًا، بل لأن القلب الذي يبلغ الستين لا يحقّ له أن يظل يفكر كما كان في العشرين.

الحبّ اليوم في قلبي أوسع من الكراهية،
لأنني تعلمتُ أن من يكره… يحيا نصف حياة.

في هذا اليوم، أدعو الله أن يحفظ مصر التي أحببتها حتى الوجع،
وأن يجعل مستقبلها بابًا لا يُغلق،
وأملًا لا يُطفأ.

وأدعو لأمي معتصمة محمد محمود وأبي عبدالعزيز نور أن يسكنهما الله في رحمته،
وأن يجعل قبريهما نورًا لا يخبو.

وأدعو لابنيَّ نور وشادي، ولزوجتي دعاء، ولأسرتي الكبيرة «الشرق»، أن تظل قلوبهم هادئة، وأن تبقى أياديهم في يدي مهما طال الطريق.

يا رب…
علّمني كيف يشيب القلب دون أن يهرم،
وكيف يكبر العقل دون أن يتكبّر،
وكيف يبقى الحب أقوى من الجراح،
وأعمق من الذاكرة.

يا رب…
احفظ مصر من ضيقٍ أو خوف،
واجعل لأبنائها في الليل ضوءًا،
وفي الطريق أمانًا،
وفي الغد مساحةً للعدل والحرية.

يا رب…
إن كان في عمري بقيّة، فاجعلها في الخير،
وإن كان في قلبي بقيّة، فاجعلها رحمة،
وإن كان في قلمي بقيّة،
فاجعله شاهدًا للحق…
حتى يهدأ، ولا تموت الكلمة.

المزيد

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى