
“المجتمع يمكنه تنفيذ أوامره وأفكاره الخاطئة بقدر ما يستطيع تنفيذها الحكام الطغاة” بهذه الكلمات الجريحة استهل الفيلسوف الإنجليزي جون ستيوارت ميل كتابه الثوري “عن الحرية” (1859)، الذي يعد حتى اليوم المرجع الأهم في الدفاع عن حرية الفرد في مواجهة سلطة المجتمع والدولة معاً.
الحرية ليست ضد الحكومة فقط!
في عصر كانت فيه أوروبا تنتقل من الاستبداد الملكي إلى حكم الأغلبية الديمقراطي، أدرك ميل ببصيرة نادرة أن الخطر الجديد لا يكمن في الحاكم المستبد وحده، بل في “استبداد الأغلبية” و”طغيان الرأي العام”.
فالمجتمع نفسه، عبر عاداته وتقاليده وأحكامه المسبقة، يمكن أن يكون سجّاناً للفرد لا يقل قسوة عن أي نظام سياسي.
وكانت الفكرة المحورية مبدأ الضرر فقد وضع ميل معياراً ثورياً بسيطاً لا يزال يثير الجدل حتى اليوم “الغرض الوحيد الذي من أجله يُسمح للبشرية، فرداً أو جماعة، بالتدخل في حرية فعل أي منهم، هو حماية الذات.
أما القوة التي تمارسها الجماعة على الفرد بشكل شرعي ضد إرادته، فلابد أن يكون الهدف منها منع الضرر عن الآخرين.”
هذا يعني أن لك كفرد الحق في فعل أي شيء ما دام لا يضر بالآخرين مباشرة، حتى لو كان هذا الفعل يضر بك شخصياً أو يعتبره المجتمع غباءً أو خطيئة أو انحرافاً.
حرية التعبير لا توجد فكرة نهائية فقد خصص ميل فصلاً كاملاً للدفاع عن حرية التعبير بأقوى الحجج.
جادل بأن قمع أي رأي هو جريمة ضد البشرية، لأن الرأي المكبوت قد يكون صحيحاً
حتى لو كان خاطئاً بالكامل، فإن وجوده ينشط العقل ويساعدنا على فهم الحقيقة بشكل أعمق
فمعظم الآراء تحوي جزءاً من الحقيقة وجزءاً من الخطأ، والحوار الحر وحده يمكنه فصل هذا عن ذاك .
في زمن كتابة “عن الحرية”، كانت أفكار ميل تعد متطرفة حتى بين الليبراليين.
فدفاعه عن حق الأفراد في “التجارب المعيشية” المختلفة، وحقهم في أن يكونوا “غرباء” أو “مختلفين”، وحماية الأقليات الفكرية من سطوة الأغلبية، كلها كانت مفاهيم تتحدى التصورات السائدة حتى في أكثر المجتمعات تقدمية.
والسؤال المهم لماذا ما زال الكتاب مهماً اليوم؟
في عصر وسائل التواصل الاجتماعي، وثقافة الإلغاء، والاستقطاب السياسي، وصعود الشعبوية، تبدو أفكار ميل أكثر راهنية من أي وقت مضى.
فهناك تساؤلاته حول حدود حرية التعبير في الزمن الرقمي
والتوازن بين الأمن الشخصي والحرية الفردية وحماية الخصوصية في عالم المراقبة
وحقوق الأقليات في مواجهة ثقافة الأغلبية .
كل هذه القضايا تجعل من “عن الحرية” ليس مجرد كتاب تاريخي، بل دليلًا أخلاقياً وسياسياً لمخاضات عصرنا.
ولكن هل أهمل ميل مسؤوليات المجتمع؟
فقد وجه النقاد ولا يزالون انتقادات لميل، أبرزها إفراطه في الفردية على حساب الروابط المجتمعية و صعوبة تحديد “الضرر” بشكل عملي وتجاهله للأبعاد الاقتصادية والطبقية التي تحد من الحرية الحقيقية .
بعد أكثر من 160 عاماً على نشره ، لا توجد حجة مهمة في نقاشات الحرية إلا ويمكن العثور على بذورها في كتاب ميل .
“عن الحرية” ليس مجرد دفاع فلسفي عن مبدأ مجرد، بل هو تأكيد على أن تنوع الآراء والأفكار وأنماط الحياة هو الوقود الذي يحرك تقدم البشرية.
كما يقول ميل نفسه: “إن كانت البشرية كلها مجمعة على رأي، وكان هناك شخص واحد فقط يخالفها في الرأي، فليس من حق البشرية إسكات ذلك الشخص، كما أنه ليس من حقه إسكاتها لو امتلك القوة.”
في زمن تتصاعد فيه الأصوات المنادية بتقييد الحريات باسم الأمن أو الاستقرار أو القيم المشتركة، يظل صوت ميل يحثنا على التريث والتفكير فأي مجتمع نريد أن نعيش فيه؟
مجتمع متجانس هادئ لكنه راكد؟
أم مجتمع متنوع صاخب لكنه حيوي ومبدع؟







