
يوسي كوهين، الرئيس السابق لجهاز الاستخبارات الإسرائيلية (الموساد) بين عامي 2016 و2021، أصدر كتابه بالإنجليزية يوم 16 أيلول/ سبتمبر 2025 (THE SWORD OF FREEDOM) “سيف الحرية: “إسرائيل” والموساد والحرب السرية”، والعنوان بنسخته العبرية: “بالأحابيل تصنع لك حرباً”، كشف فيه عن مسائل حساسة تتناول الهيكل المؤسسي للموساد وبنيته، وتقسيمه إلى وحدات تشغيل، وتحليل، وتشغيل خارجي، وعمليات خاصة، والوحدة المسؤولة عن العمليات النوعية، كالاغتيالات والتجنيد والتدريب. كما ركّز على قدرات الموساد في السايبر الهجومي، وجمع المعلومات عبر الذكاء الاصطناعي، وأيضاً استخدام التكنولوجيا الدقيقة في عمليات الاغتيال والتخريب، بحيث إنّ الموساد لم يعد يعتمد على الجواسيس فقط، وإنما على التكنولوجيا في الدرجة الأولى.
من اللافت أنّ كوهين ركز في كتابه على “العدو المركزي”، إيران، التي يصفها بالمشروع التوسعي الشيعي وتسعى إلى زعزعة الاستقرار في الشرق الأوسط، مشكّلة تهديداً وجودياً بسبب برنامجها النوويّ! رأى كوهين نفسه أنه مسؤول عن كبح جماح إيران بأيّ ثمن، ولم يُخفِ دون ذكر التفاصيل، القيام بعمليّات تخريب داخل إيران، وبالذات في منشأة “نطنز”، وتصفية علماء نوويّين، وسرقة الأرشيف النووي الإيراني عام 2018، وتجنيد عملاء داخل إيران، بمَن فيهم مَن هم على اتصال مباشر بالبرنامج النووي.
يوسي كوهين لا يفصل مواجهة إيران عن العمل في العراق، وسورية، ولبنان، واليمن، معتبراً أنّ الصراع في المنطقة “إقليمي لا حدود له”. كما كشف النقاب عن الاتصالات السرية لـ “الموساد” على مدى عقود طويلة مع دول عربية، حيث كانت جسر عبور بين “إسرائيل” ودول المنطقة، وذلك قبل اتفاقات إبراهام، وقبل معاهدة كامب دايفيد مع مصر ووادي عربة مع الأردن، مؤكداً على تعاون أمني مع دول خليجية، وعلاقات سرية مع الأردن ومصر، واتصالات خلف الكواليس مع المغرب والسودان، وبعض دول القرن الأفريقي.
كشف كوهين دور الموساد في التمهيد للاتفاقات، وفتح قنوات اتصال استخباريّة للتنسيق في مواجهة إيران والتنظيمات المسلحة، وأنّ التطبيع لم يكن نتيجة جهود دبلوماسية فقط، وإنما نتيجة ثمرة عمل استخباريّ طويل، مسلطاً الضوء أيضاً على العمليات الخاصة للموساد في التخريب، وتقويض الأعداد، وتنفيذ الاغتيالات استهدفت شخصيّات تعمل ضدّ “إسرائيل”، واختراق المنظمات المعادية، وأيضاً القيام بعمليات خارج نطاق الشرق الأوسط، وعمليّات سيبرانيّة معقدة.
في ما يتعلّق بمستقبل “إسرائيل”، يركز كوهين على ضرورة الاحتفاظ بالتفوّق العسكريّ والاستخباريّ، مع تأكيده على أهميّة تحالفات دول الشرق الأوسط، ومنع إيران من امتلاك قنبلة نووية. كما أنّ على “إسرائيل” بناء توازنات مع قوى كبرى مثل الولايات المتحدة والصين، وتطوير قدرات الذكاء الاصطناعيّ في مجال الاستخبارات.
يحاول كوهين أن يبرّر السياسات العدوانيّة لـ “إسرائيل”، واضعاً كيان الاحتلال في موقع دفاعيّ، لذلك يعتبر عمليات الاغتيال والتدريب ليست عدوانية وإنما ضرورية، وأنّ “الحرب الاستباقية”، هي “خيار إسرائيل الوحيد”، وهذا ما أراده كوهين لشرعنة استراتيجية الضربة الأولى التي يتبنّاها الموساد.
كوهين يركز على “التهديد” الإيراني، ويعتبر إيران مصدر الخطر الأول، ليبرّر العمليّات السرية، وأيّ عمل عسكريّ محتمل تقوم به “إسرائيل” ضدّ إيران، كما يشدّد على تكريس التحالف بين “إسرائيل” والدول العربيّة ضدّ إيران، التي يعتبرها العدو المشترك، وفقاً للبروباغندا السياسية الإسرائيلية المعادية لطهران.
كوهين يرى أنّ دعم التطبيع، هو خيار استراتيجيّ لـ “إسرائيل”، موجّهاً رسالة واضحة إلى الدول العربية مفادها، أنّ التعاون مع “إسرائيل” مفيد، وأنّ الخطر الإيراني يوحّد المنطقة، وأنّ الموساد كان شريكاً سرياً في حماية العديد من الدول، لذلك يشدّد على ضرورة تكريس التحالفات الإقليمية الجديدة، ويبرز فعالية الموساد في التطبيع مع العرب.
أراد كوهين أن يقول للدول العربية إنّ “إسرائيل” تمتلك قدرات خارقة، وإنّ أعداءها مخترقون، ويدها طويلة في كلّ مكان، وإنّ “الموساد” في مواجهة مستمرّة مع أخطار وجودية، وإنّ الاغتيالات التي يقوم بها، أقلّ الخيارات ضرراً، إذ تستهدف مَن يشكل خطراً مباشراً على “إسرائيل”، وهي خيارات تخضع لاعتبارات قانونية داخلية.
كوهين الطامح إلى دور سياسي رفيع، يعتبر أنّ “إسرائيل” محاصرة، وأنّ العمليات السرية ضرورية لبقائها، فيما إيران هي الوحش الذي تجب مواجهته الآن، وأنّ الحلّ في الشرق الأوسط ليس في المفاوضات، وإنما بالتحالفات الأمنية، وموازين القوة.
تناول كوهين مسائل حساسة ترتبط بعمليات جهاز الموساد، الذي لم يكتف بجمع المعلومات، بل عمل على التاثير في الرأي العام العربي، بفعل التدخل الرقمي الإعلامي الذي هو استراتيجية تعتمدها “إسرائيل”، بغية استهداف الجمهور العربي وأخذه إلى مكان يؤثر سلباً على المشهد السياسي والاجتماعي العربي، ويدعم منطق نظرية التدخل الخارجي على منصات التواصل الاجتماعي، من خلال استخدام الوسائل غير التقليدية، كالحملات الرقمية، والحسابات المزيفة، ونشر الرسائل الموجهة، وتأطير الأخبار بما يخدم مصالح “إسرائيل”.
هذه الوسائل ليست أعمالاً فردية عشوائية، وإنما جزء من أدوات دولة الاحتلال، إذ يتعاون “الموساد” مع جهات وسيطة، كشركات خاصة، او خبراء إعلام رقمي، أو وسطاء في دول ثالثة، وهذا ما يفسّر عدم كشف الحملات الإعلامية للعدو بسهولة على منصات مثل X.
نجاح الحملات الإعلامية على المنصات، لا يُقاس استراتيجياً بعدد الحسابات أو المشاركات، وإنما يُقاس بمدى التأثير على الرأي العام العربي، لأنّ نجاح العملية لا يتطلب ظهوراً واضحاً للحسابات، مما يعقّد الكشف المباشر.
الإعلام الرقمي أصبح جزءاً من أدوات “الموساد”، خاصة في ما يتعلق بالتعامل مع الجمهور العربي. إنّ استخدام الحملات الرقمية أصبح أداة استراتيجية لـ “إسرائيل”، وليس نشاطاً فردياً، إذ يتمّ أحياناً العمل مع وسطاء أو شركات متخصّصة لإطلاق حملات دقيقة، بحيث يصعب كشفها على المنصات نتيجة التباين بين الموقع الظاهر للحساب والمصدر الحقيقيّ.
لقد قام “الموساد” على مدى سنوات، عبر المنصات الرقميّة بإشعال الفتن الطائفيّة في العالم العربي، وأجّج الانقسامات القومية والعرقية، وبثّ النقاشات السامة بين العرب للتأثير على الرأي العام وتعميق الانقسامات داخله.
إذا كان الموساد استطاع أن يخترق دولاً عربية عديدة، ودفعها سياسياً للتطبيع مع الكيان “الإسرائيلي” فما مدى اختراقه للداخل اللبناني، استخبارياً، وسياسياً وأمنياً، وإعلامياً؟! هل سيسهل اليوم عمل آلية الميكانيزم، بتعيين السفير السابق سيمون كرم ليرأس الوفد اللبناني المفاوض، كحلّ وسط ترضى به واشنطن وتل أبيب بدلاً من تكليف شخصيّة بمستوى وزير تريدانه؟! “إسرائيل” تريد توسيع مضمون مواضيع المفاوضات، لتشمل في ما تشمل، مسائل سياسية واقتصادية حساسة، بغية جرّ لبنان وبضغط أميركي، للقيام بخطوات تطبيعية باتجاه العدو، وإنْ كانت الخطوات متواضعة في بداية الأمر، إلا أنها بنظر “إسرائيل” ستكون ضمانة مستقبلية للتطبيع الكامل معها والاعتراف “بشرعيتها”.
المفاوضات التي يُصرّ عليها لبنان، مفاوضات غير مباشرة، لها طابعها العسكري والأمني، والتقني، لكن تطعيم الوفد بشخصية دبلوماسية سياسية بناء على إصرار تل أبيب وواشنطن، ترى فيه “إسرائيل”، بمثابة اعتراف، وإقرار رسمي من لبنان بشرعيتها ووجودها، من خلال مفاوضات تتطلع إليها، متعدّدة الجوانب السياسية والدبلوماسية، والاقتصادية، والسيادية، والأمنية، والتقنية.
ما هو الدور الفعلي لآلية الميكانيزم؟! أهو دور عسكري، وأمني، وتقني فعلاً يشرف على تنفيذ اتفاق وقف إطلاق النار، وانسحاب جيش الاحتلال من لبنان، الذي تمّ التوصل إليه يوم 27 تشرين الثاني/ نوفمبر 2024، أم هو دور سياسي وديبلوماسي واقتصادي أيضاً تريده واشنطن وتل أبيب في الدرجة الأولى، وما هي المواقف السياسية التي تريد “إسرائيل” أن تحصل عليها من لبنان، عبر الوفد اللبناني المفاوض؟! عيون “إسرائيل” على المنطقة الاقتصادية في الجنوب التي تعتزم إنشاءها، وعلى النفط والغاز، وعلى تعديل الاتفاق حول المنطقة الاقتصادية الحصرية العائدة للبنان، خاصة بعد اتفاق الترسيم مع قبرص! هل سيتمسّك لبنان حتى النهاية بحقوقه الكاملة، ويتمكّن بالمفاوضات من استرجاع كافة الأراضي اللبنانية المحتلة، والحصول على ضمانات مستقبلية تلزم “إسرائيل” بالتقيّد بالاتفاقات، وعدم خرقها مجدّداً لسيادة لبنان؟! المفاوضات ليست بالأمر السهل، إذ أنّ “إسرائيل” تريد الأمن قبل السلام! السلام الذي تعتزم فرضه، هو السلام المبني على القوة والاحتلال والأمر الواقع.
العدو مراوغ، ومنافق، ومماطل، ومخادع، يريد أن يفاوض تحت الضغط، ويتعمّد أن يبتزّ، ويساوم، ويهدّد تحت النار، علّ المفاوض اللبناني الخصم، يرفع الراية البيضاء، ويستسلم، ويُذعن لمطالبه، ومن ثم تفتح معه أبواب التطبيع المغلقة.
ستبيّن آلية “الميكانيزم” لاحقاً نيات واشنطن وتل أبيب، ومدى صلابة لبنان بوفده المفاوض، ومدى تمسكه بحقوقه المشروعة الكاملة التي تضمن تحرير أرضه، والحفاظ على سيادته، والوفاء لشهدائه، لا سيّما أنه في مواجهة عدو شرس يلقى دعماً وتأييداً دون حدود من دولة عظمى هي في الوقت نفسه موجّهة وراعية لآلية “الميكانيزم” التي ينتظر اللبنانيون من أميركا موقفاً شجاعاً، نزيهاً، عادلاً، يشرّفها ويشرّف القانون الدولي ولو لمرة واحدة.







