
تأتي الهدايا عادة في صناديق أنيقة، تُقدَّم في احتفالٍ أو موعدٍ معروف، غير أن الحياة — حين تشاء — تمنحنا أثمن هداياها في ورقةٍ صغيرة، كتبتها طفلة لم أرها، ولم أسمع صوتها، ولم أعرفها إلا حين فتحت بريدًا عابرًا فخطف قلبي قبل أن يخطف نظري.
طفلة لبنانية، عمرها ثلاثة عشر عامًا، فاطمة دقيق ،لا تجمعني بها قرابة، ولا صداقة، ولا معرفة مسبقة، لكنها كتبت إليّ بخطٍ مرتجف يشبه شهقة، وصدقٍ يشبه صلاة. أخبرتني بأنها وجدت كتابي “أوراق من مذكّراتي” بالصدفة، فصار الكتاب — كما قالت — رفيقًا يداوي جرحًا، ومرآة ترى فيها شيئًا من قصّتها، حتى خُيِّل إليها أن بيننا خيطًا غير منظور يشبه الخيط الذي يربط الأرواح لا الأسماء.
حدّثتني عن أمٍّ تشاركها القراءة، وعن قلبٍ صغير يبحث عن معنى، وعن عالمٍ كان يضيق عليها حتى وجدت في الكلمات بابًا، وفي التجربة عزاءً، وفي اللغة العربية وطنًا جديدًا يضمّها. قالت إنها رفعت يدها في آخر صفحة وضحكت… ضحكة تليق بطفلة تُكتشف فجأة أنها ليست وحدها في هذا العالم.

لم تكن الرسالة خالية من الأخطاء، لكنها كانت ممتلئة بما هو أهم: الصدق. وأدركت، وأنا أقرأ سطورها، أن الكتاب الذي كتبته بذاكرة السجن والمنفى والوجع، قد وجد طريقه إلى قلب طفلة، فصار لها سندًا خفيفًا في رحلة عمرها الصغيرة. وتساءلت بيني وبين نفسي: أيّ كاتبٍ يملك أن يتلقى شهادة أعظم من هذا؟
قدّمت لي هذه الطفلة اللبنانية ما لم تقدّمه مؤسسات، ولا احتفالات، ولا كلمات المديح: قدّمت لي أجمل هدية في عيد ميلادي. هدية لا تُشترى، ولا تُغلَّف، ولا تُنسى. وربما — وربما جدًّا — كان تعليقها أول تعليق يصلني من جيلٍ لم أكتب له بوعي، لكنه قرأني بقلبه.
أشعر بامتنان عميق لهذه الصغيرة التي لم ألتقِها، لكنها دخلت بيتي وقلبي معًا. وأشعر بأن العمر — مهما طال — لا يزال قادرًا على مفاجأتي ببراءة، وبنورٍ يأتي من حيث لا أتوقع.
لذلك، أكتب اليوم لأقول لها:
يا ابنتي البعيدة…رسالتك لم تكن مجرد ورقة وردية كتبتِها بعفوية، كانت يدًا صغيرة أمسكت بيدي في عيد ميلادي، وأعادت إليّ شيئًا من طفولتي أنا…ومن إيماني بأن الكتابة لا تزال قادرة على مداواة هذا العالم.







