مقالات وآراء

د.تامر المغازي يكتب: من حروب العالم إلى عصر “التطبيل والمهلبية”.. رحلة البشرية بين الجد والهزل

من أتون الحروب إلى براح السلام عاشت البشرية خلال القرنين الماضيين تحولات جذرية شكلت مصير الأمم وصاغت وعي الأجيال.

من حروب عالمية مدمرة ذهب ضحيتها ملايين البشر، إلى صراعات إقليمية لا تنتهي، إلى أزمات اقتصادية كبرى هزت أركان النظام العالمي.

كان كل عصر يحمل بصمته الخاصة عصر الحروب، عصر النهضة الاقتصادية، عصر الأزمات الدولية.

لكننا اليوم، في نهاية الربع الأول من القرن الحادي والعشرين، نشهد تحولاً غريباً في المشهد العالمي عصر “التطبيل والمهلبية”، حيث يطغى الشكل على المضمون، والزيف على الحقيقة، والإبهار البصري على الجوهر الفكري.

عصور الجد والصراع فقد شهد النصف الأول من القرن العشرين حربين عالميتين كانتا من أكثر الصراعات دموية في التاريخ البشري.

لم تكن هذه الحروب مجرد معارك عسكرية، بل كانت صراعات أيديولوجية ووجودية رسمت خريطة العالم الحديث.

بعد أن انتهى الرصاص ودوت صافرات السلام، دخل العالم في مرحلة جديدة من البناء.

فقد شهدت الخمسينيات والستينيات نهضة اقتصادية غير مسبوقة، خصوصاً في أوروبا الغربية واليابان والولايات المتحدة.

كانت “المعركة” هذه مرة اقتصادية، هدفها إعادة إعمار ما دمرته الحرب. وجاء الفصل الثاني لحل أزمات التحول والنمو و لم يكن الطريق ممهداً بالورود.

جاءت أزمات النفط في السبعينيات، وسقوط الاتحاد السوفييتي في التسعينيات، والأزمة المالية العالمية في 2008، لتذكرنا بأن التاريخ ليس خطاً مستقيماً تصاعدياً.

كانت كل أزمة من هذه الأزمات تنقل العالم إلى مرحلة جديدة، أكثر تعقيداً وتشابكاً. لكن السمة الغالبة في تلك الفترات كانت الجدية في التعامل مع التحديات.

كانت القيادات السياسية تدرك حجم المسؤولية، وكانت الشعوب تتابع الأحداث بوعي وحس نقدي.

كانت وسائل الإعلام، رغم تحيزاتها، تحاول تقديم محتوى جاد يناقش القضايا المصيرية. ثم جاء الفصل الثالث و ميلاد عصر “التطبيل والمهلبية”

دخلنا العقد الثاني من القرن الحادي والعشرين ونحن نحمل هواتف ذكية أكثر تطوراً من حواسيب أطلقت مركبات الفضاء إلى القمر.

لكننا أيضاً دخلنا عصراً جديداً من السطحية والانفصال عن الواقع.

“التطبيل والمهلبية” التعبير الدارج الذي يشير إلى المبالغة في المدح والتهويل من الإنجازات الوهمية أصبح سمة عصرنا.

لم يعد الاهتمام منصباً على السياسات الحقيقية التي تؤثر في حياة الناس، بل على الصور الترويجية والتغريدات المثيرة والخطابات الحماسية الفارغة.

في السياسة، لم تعد البرامج الانتخابية الجادة هي التي تحسم المعارك، بل الشعبوية والعواطف الجياشة ( تمثيل درجه ثالثه ) .

في الاقتصاد، لم تعد المؤشرات الحقيقية للنمو هي المقياس، بل سوق الأسهم الوهمي الذي ينهار عند أول أزمة.

في الإعلام، لم تعد الأخبار العميقة والمحللة تجذب الجمهور، بل العنايين الصادمة والمحتوى السريع الاستهلاك.

لماذا “التطبيل والمهلبية” اليوم؟

ثمة عوامل عدة أدت إلى صعود هذا العصر مع بدايه ثورة التواصل الاجتماعي التي حولت السياسة والفكر إلى مسابقات شعبوية، حيث “اللايكات” و”المشاركات” أصبحت أهم من المضمون.

اقتصاد الاهتمام حيث أصبح جذب الانتباه هو العملة الأكثر قيمة، مما يدفع الجميع إلى المبالغة والتهويل.

والتعب النفسي الجماعي بعد عقود من الحروب والأزمات، ربما يبحث الناس عن “استراحة” من الجدية القاتلة، ولو كانت وهمية.

و انفصال النخب عن الواقع حيث يعيش صناع القليل في فقاعات بعيدة عن معاناة المواطن العادي.

والسؤال الان هل يمكن العودة من الهزل إلى الجد؟

إنه السؤال الذي يطرح نفسه الان بقوة هل نحن مقبلون على عودة الجدية عندما تتفاقم الأزمات الحقيقية كالتغير المناخي والأزمات الاقتصادية المتلاحقة؟

التاريخ يشير إلى أن البشرية تعود إلى رشدها عندما تصل إلى حافة الهاوية.

لكن الخطر الحقيقي هو أن “عصر التطبيل والمهلبية” قد يكون إدماناً جماعياً يصعب الخروج منه.

ربما نحتاج إلى صحوة نقدية جماعية، وإلى إعلام جاد، وإلى قيادات تتحمل المسؤولية بدلاً من البحث عن الأضواء.

العالم يتغير، والتحديات الحقيقية لا تنتظر.

فإما أن نستيقظ من سبات “المهلبية” قبل فوات الأوان، وإما أن ندفع الثمن غالياً عندما تعود الأزمات لتطرق أبوابنا، ونكتشف أن “التطبيل” لم يكن سوى مسكن مؤقت لأوجاع لن تزول بالتصفيق.

المزيد

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى