
تتقدّم في الذاكرة صورٌ كثيرة، غير أنّ بعضها يختار أن يبقى.
معن بشور واحدٌ من هذه الوجوه التي لا تزول، لأنه لا يشبه الأشخاص الذين يجيئون ويرحلون، بل يشبه الفكرة حين تتجسّد، والمبدأ حين يسير على قدمين، والضمير حين يجد له ناطقًا يتّسع له العمر كلّه.
تمتد معرفتي به لما يقارب الأربعين عامًا، أربعون عامًا رأيت فيها رجلًا يثبت حيث يتغيّر العالم، ويشتد حيث تلين المواقف، ويصفو حيث تعكّر السياسة صفو النفوس.
لم يتبدّل يومًا، ولم يُغيّر بوصلته، ولم يساوم على ما آمن به. يختلف معه البعض، يتفق معه البعض، لكن أحدًا — أي أحد — لا يستطيع تجاهل دوره، ولا يستطيع إلا أن يرفع قبعته احترامًا لهذا الثبات النادر.
تتشكّل سيرة هذا الرجل من خيوطٍ تنسجها قضايا الأمة.
لبنان كان وطنه الأول، لكن فلسطين كانت وطنه الأكبر، ومصر كانت أرض صداقاته العميقة، والعروبة كانت سماءه التي لم يغادرها. عاش لكل هذه البلدان كما لو أنها جسدٌ واحد وروحٌ واحدة، حتى بدا كأن الأمة كلّها تمتد في قلبه، لا على خارطته.
تتأمّل تاريخه فتجد نفسك أمام رجلٍ لم يكتفِ بأن يحلم، بل صنع للحلم مؤسساتٍ ومسارات.
أسّس المؤتمر القومي العربي ليعيد للفكرة صوتها، وأسّس المؤتمر القومي الإسلامي ليجمع جناحي الأمة، وأسّس مؤتمر الأحزاب العربية ليمنح السياسة معنى أخلاقيًا، وأسّس مؤسسة القدس الدولية ليجعل من فلسطين جرحًا لا يُترك للنسيان. كل خطوة من خطواته كانت أشبه بإنقاذ شيءٍ ثمين من الركام.
تتأمّل ثوابته فتدرك أنك أمام رجلٍ لا يتبدّل.
مواقفه تشبه جذور الأشجار القديمة: تضرب في الأرض عميقًا، وتعرف تمامًا لماذا وُجدت، ولمن تنحاز. وحين تختلف معه، تجد نفسك في النهاية أمام رجلٍ لا يملك سوى الاحترام له، لأنه لم يخدع يومًا، ولم يُبدّل يومًا، ولم ينحنِ لغير ما يراه حقًا.
تتألّق سيرة الرجل في تلك اللحظات التي يكرّمه فيها رفاق الطريق.
كلمات صلاح عبد المقصود، ومحمد سليم العوا، وحميد الأحمر، وياسين حمود، وأيمن زيدان، لم تكن مجرد شهادات… كانت مرايا تعكس صورة رجلٍ ساهم في بناء وعيٍ جمعيّ، وظلّ وفيًا لكل ما آمن به.
تتوهج لحظة التكريم في إسطنبول كأنها اعترافٌ من التاريخ بأن هذا الرجل كان أحد حرّاس المعنى في زمنٍ تتهاوى فيه المعاني.
لم يكن الاحتفاء به مجاملة، بل كان استعادةً لشخصٍ حمل على كتفيه أمانة الفكرة خمسين عامًا وأكثر، دون أن يسمح لليأس أن يتسلّل إلى صوته أو إلى قلبه.
تتقاطع نظرتي إليه — بعد أربعة عقود — مع نظرة الأمة إليه.
رجلٌ لا تصنعه اللحظات القصيرة، بل تصنعه المسيرة الطويلة. رجلٌ لا يُقاس بعدد المناصب، بل بعدد الجسور التي بناها. رجلٌ لا يبحث عن الضوء، بل يصنعه.
تتصفّى الرسالة في نهاية السطور:
إذا كان في الأمة رجالٌ يذكّروننا بما كنّا عليه وما ينبغي أن نكونه، فإن معن بشور واحدٌ من هؤلاء.
وإذا كانت العروبة قد أنجبت حراسًا للفكرة، فهذا الرجل أحد آخرهم.
وإذا بقي في هذا الزمن ما يُلهم، فوجوده أحد أسباب الإلهام.
هذا هو الصديق العزيز #معن_بشور:
عربيّ الهوى،
فلسطينيّ الوجدان،
مصريّ الروح،
لبنانيّ الجَذْر،
ورجلٌ تكفي سيرته ليفهم القارئ لماذا لا يستطيع أحد تجاهله، ولماذا لا يستطيع أحد إلا أن يحترمه…
احترامًا يليق برجلٍ ظلّ وفيًّا لنفسه…
ولأمّته…
وللفكرة التي لم تخنه يومًا.







