مقالات وآراء

د. محمد عماد صابر يكتب: الإسلام والدولة الحديثة.. رؤية مقاصدية.

تتجدد الأسئلة اليوم حول علاقة الإسلام بالدولة الحديثة، وسط عالم يزداد تعقيدًا وتشابكًا وتعددًا في السلطات والوظائف والفاعلين. ويأتي السؤال الأعمق: هل يملك الإسلام تصورًا للدولة؟ وهل يمكن للدولة الحديثة أن تتسع لمقاصد الشريعة وروحها ومشروعها الحضاري؟ أم أن بينهما فجوة؟
الرؤية المقاصدية تقدّم الجواب الأكثر قدرة على الجمع بين الأصالة والواقعية وفاعلية التطبيق؛ لأنها تنتقل من الشكل إلى المقصد، ومن الهياكل إلى الوظائف، ومن النص المجرد إلى روح النص، ومن التاريخ إلى العمران البشري.

أولا: الدولة في التصور الإسلامي: “منطق الوظيفة لا منطق الشكل”


لم يأتِ الإسلام بنموذج جامد للدولة، بل قدّم مبادئ ومقاصد وقيمًا تصنع الدولة القادرة على حفظ الدين والنفس والعقل والنسل والمال والكرامة. كان النموذج النبوي والخلافة الراشدة مثالًا لدولةٍ تقوم بوظائف واضحة: “تحقيق العدل- حفظ الأمن- حماية الحقوق- صيانة الهوية- مقاومة العدوان- بناء المجتمع- إقامة نظام يحقق مصالح الناس ويمنع الفساد.


هذه الوظائف هي التي تحدد “شكل الدولة” في الإسلام، وليس العكس؛ فالإسلام لا يفرض شكلًا واحدًا، بل يربط الشرعية بـتحقيق المقاصد الشرعية.

ثانيا: الدولة الحديثة: “بين التعقيد المؤسسي وتوزيع السلطات”


الدولة الحديثة تمتاز بـ: “مؤسسات متخصصة- فصل نسبي للسلطات- نظم رقابة ومحاسبة- بيروقراطية تنظيمية- مفهوم المواطنة- قانون وضعي قابل للتطوير- اعتراف بالحقوق والحريات الأساسية.
هذه العناصر ليست في ذاتها مناقضة للإسلام، بل يمكن إدماجها داخل إطار مقاصدي يجعلها أدوات لتحقيق العدالة وحفظ الحقوق.

ثالثا: الرؤية المقاصدية: “جسرٌ بين الإسلام والدولة الحديثة”


توفر المقاصد إطارًا مرنًا في دمج الإسلام بالحداثة السياسية.
المقاصد الكبرى (حفظ الدين والنفس والعقل والنسل والمال والكرامة) تتحقق اليوم من خلال مؤسسات حديثة:
•⁠ ⁠استقلال القضاء لحفظ الحقوق
•⁠ ⁠برلمان منتخب لحفظ المصالح العامة.
•⁠ ⁠مؤسسات رقابية لمنع الفساد
•⁠ ⁠سياسات تعليمية لحفظ العقل والهوية.
•⁠ ⁠سياسات اجتماعية لحفظ الكرامة والنسل.
•⁠ ⁠اقتصاد عادل يعالج الاحتكار والربا


فالدولة الحديثة تصبح “وسيلة مقاصدية” لا “قالبًا غربيًا” إذا أعادت تعريف وظيفتها وفق القانون الأخلاقي الإسلامي.

رابعا: القيادة الشرعية في الدولة الحديثة: “مقاصد الحكم لا ديكور السيادة”


القيادة في التصور الإسلامي ليست حقًا طبقيًا أو وراثيًا، وإنما هي: أمانة ومسؤولية لتحقيق مصالح الأمة ورفع الظلم عنها.
يكشف المنهج المقاصدي أن شرعية الحاكم تقوم على: “العدل- القدرة- الشفافية- رضا الناس- حماية الثوابت- صيانة الأمن والمصالح- حفظ القيم الدينية والإنسانية. وهي شروط منسجمة مع جوهر الدولة الحديثة القائمة على المحاسبة وتداول السلطة.

خامسا: المواطنة في الإسلام: “عقدٌ بالحقوق والواجبات”


ترى المقاصد أن المواطنة ليست هوية ورقية، بل منظومة حقوق وواجبات تحفظ قيم العدل والمساواة.
وتستوعب الدولة الإسلامية الحديثة: “المسلم وغير المسلم- الرجل والمرأة- جميع الأعراق واللغات
على قاعدة: “ولقد كرّمنا بني آدم”– تكريمٌ مؤسسي وقانوني واجتماعي، لا خطابيّ فقط.

سادسا: التشريع من “النقل إلى التفعيل”


جوهر التشريع في الإسلام هو تحقيق المصالح ودرء المفاسد.
يمكن للدولة الحديثة أن تعتمد القوانين الوضعية التي لا تعارض النصوص، بشرط: “أن تنسجم مع المقاصد- أن تحقق العدل- أن تمنع الاستبداد- أن تُحاسِب السلطة- أن تعكس الأخلاق العامة والمصلحة الراجحة.
القانون هنا ليس تقليدًا للغرب، بل أداة لتحقيق الشرع عبر “فقه العمران الحديث”.

سابعا: الحرية في الدولة الإسلامية الحديثة.. “بوصفها مقصدا”


المقاصد تمنح الحرية منزلة مركزية:
حرية الاعتقاد- حرية الدعوة- حرية التعبير- حرية المشاركة السياسية- حرية التملك والعمل- حرية التفكير والإبداع. فالحرية ليست تهديدًا للدين، بل بيئة حقيقية لنموه. ومن دون حرية، لا تتحقق المقاصد الأخرى.

ثامنا: الدولة الحديثة كأداة مقاومة.. “البعد الحضاري”


المقاصد تضفي بُعدًا إضافيًا للدولة الحديثة: أن تكون أداةً لحماية الأمة ومقاومة المشروع الصهيوني والاستبداد وفساد النخب.
الدولة المقاصدية ليست محايدة أخلاقيًا؛ بل تحمل رسالتها في: الدفاع عن المستضعفين- حماية الأمة- دعم المقاومة- رفض الهيمنة- تعزيز القوة الناعمة- حماية الهوية من الذوبان.

تاسعا: التحدي الأكبر.. تحويل الإسلام من “شعار” إلى “نظام وظيفي”.


مشكلات التجربة الإسلامية المعاصرة لا تأتي من الإسلام، بل من: “غياب الفقه المؤسسي- ضعف القيادة- غلبة الخطاب الوعظي على الخطط- غياب الشفافية- تقديس الرموز- غياب المحاسبة- الصراع الداخلي- تصدير الخلاف- تجاهل سنة التدرج والمآلات.
الرؤية المقاصدية تعيد ترتيب المشروع: من العاطفة → إلى المنهج
من الشعارات → إلى الخطط
من الخطابة → إلى بناء المؤسسات
من ضوضاء السياسة → إلى هندسة السياسات

عاشرا: نحو دولة حديثة بروح إسلامية: “خارطة تطبيقية”


يمكن تلخيص الرؤية التطبيقية في: تعريف وظيفة الدولة بأنها “تحقيق العدل والمقاصد”.
إعادة هندسة مؤسسات الحكم على أساس استقلال السلطات.
تفعيل فقه المصلحة والمآلات في صناعة القرار.
بناء تعليم يحقق الهوية لا الاستلاب.
سياسة اقتصادية تمنع الاحتكار والربا وتحقق العدالة.
دعم المجتمع المدني وإشراك الناس.
مقاومة الفساد عبر مؤسسات مستقلة.
تحرير الفتوى من التوظيف السياسي.
ترسيخ ثقافة المحاسبة والشفافية.
ربط الدولة بقضايا الأمة وعلى رأسها فلسطين.

خلاصة:


الإسلام ليس خصمًا للدولة الحديثة، والدولة الحديثة ليست خطرًا على الإسلام.
الخطر الحقيقي هو الاستبداد، والفراغ الأخلاقي، وتغوّل السلطة، وغياب المقاصد عن التشريع والسياسة والإدارة.
الرؤية المقاصدية تجعل الإسلام قوةً لإنهاض الدولة، وتجعل الدولة الحديثة أداةً لتحقيق رسالة الإسلام في: بناء الإنسان، إقامة العدل، حفظ الكرامة، وحماية الأمة من السقوط.

المزيد

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى