
تعيش الأمة اليوم واحدة من أكثر لحظاتها التباسًا ومرارة؛ لحظة يَجري فيها تجريمُ الكلمة، ونفيُ أصحاب الرسالة، وإسكاتُ العلماء والدعاة، وسحبُ الجنسيات من رموز الإصلاح وكأننا في زمن فرعنة جديدة تتكرر بوجوه مختلفة.
وما حدث مؤخرًا مع الداعية الدكتور طارق السويدان ليس حالة منفردة، بل حلقة في سلسلة طويلة من استهداف أهل العلم والفكر، في الوقت الذي تُفتح فيه الأبواب للمفسدين وتُغلق في وجه الصالحين.
هذه الظاهرة ليست بنت اليوم، ولا هي مختصة بقطرٍ دون آخر، بل هي علامة على اختلال عميق في منظومة الحكم والمعرفة والهوية في العالم العربي والإسلامي.
لماذا يطارد الطغاةُ العلماء والدعاة؟
التاريخ يخبرنا أن أول مَن حُورِبوا وهُجِّروا هم الأنبياء. فقوم لوط قالوا:
﴿أَخْرِجُوا آلَ لُوطٍ مِنْ قَرْيَتِكُمْ إِنَّهُمْ أُنَاسٌ يَتَطَهَّرُونَ﴾
والتهمـة كانت “الطهارة”: أن يعيشوا بأخلاق مستقيمة في مجتمع ملوث.
وإبراهيم عليه السلام خرج مهاجرًا لأنه رفض الخضوع للأصنام السياسية والاقتصادية في زمنه.
وموسى عليه السلام لاحقه فرعون لأنه كشف زيف “الإله الجديد” الذي يُحيي ويميت، ويقرر لمن يمنح الحياة ومن يسحبها، ولمن يعطي الجنسية ومن ينزعها.
هكذا هو الطريق دائمًا: العلماء يكشفون الكذب، فيُصبح وجودهم جريمة عند من بُني ملكهم على الوهم.
ضيق الفراعنة الجدد بصوت العلم والوعي.
الاستبداد لا يخشى السلاح بقدر خوفه من الكلمة. الكلمة تهزّ شرعية الظالم، تفتح أعين الناس، وتُعيد ترتيب المجتمع.
ولهذا:
يُلاحَق العلماء لأنهم رأس الوعي.
تُغلق المنابر لأن الأنظمة تخشى الكلمة الحرّة أكثر من خوفها من العدو.
تُسحب الجنسيات لأن الجنسية في نظر الطغاة منحة سياسية لا حقّ إنساني.
يُنفى الدعاة لأن وجودهم يذكّر الناس أن للحق رجالًا وأن للباطل نهاية.
الأنظمة التي تُحارب العلماء هي ذاتها التي تشرعن الفساد، وتطبع مع الاحتلال، وتستورد نموذج القيم من خارج سياق الأمة، وتعتبر كل صوت يدافع عن فلسطين أو الهوية الإسلامية تهديدًا للأمن السياسي.
لماذا لا نشهد هذه الممارسات إلا في بلاد المسلمين؟
لأن الاستبداد في عالمنا ليس مجرد ممارسة محلية، بل جزء من منظومة دولية تحرص على أن تبقى المنطقة:
بلا وعي، بلا قيادة، بلا مشروع، وبلا علماء يُحرّكون الجماهير.
وحين تُحاصر غزة، أو تُشوَّه صورة المقاومة، أو تُفتح أبواب التطبيع، فإن أول خطوة يلجأون إليها هي تجفيف ينابيع العلم والدعوة.
ولهذا تُسحب الجنسيات من العلماء والدعاة، بينما تُمنح مزايا وامتيازات لرموز الانحراف والفساد.
سحب جنسية السويدان… عرضٌ لمرض أكبر.
قضية الدكتور طارق السويدان ليست مسألة محلية أو خلافًا قانونيًا. إنها:
رسالة تخويف لكل عالم حر.
استجابة لإملاءات خارجية تحارب الوعي الإسلامي.
محاولة لخلق فراغ معرفي يُمكن ملؤه بمشاريع تافهة أو ممولة خارجيًا.
تكريس لنموذج الدولة الأمنية التي ترى العلماء أخطر من تجار المخدرات وغاسلي الأموال.
ولأن السويدان يمثل مدرسة فكرية دعوية مؤثرة، فإن استهدافه هو استهداف لطريق كامل، وليس لشخص.
متى ينتهي العبث ومحاربة العلم؟
ينتهي عندما تدرك الأمة ثلاثة حقائق:
أن الظلم لا يدوم.
قال تعالى: ﴿فَأَمَّا الزَّبَدُ فَيَذْهَبُ جُفَاءً﴾.
كل طغيان مهما اشتدّ فهو زَبَد سيزول.
أن العلماء هم خط الدفاع الأخير عن هوية الأمة.
وإذا سقط هذا الخط، سقطت الأمة في فوضى القيم.
أن مشروع الصهيونية العالمية لا ينتصر إلا في بيئةٍ بلا علماء، بلا دعاة، بلا وعي.
فكلما حورب العلماء، ساد الجهل، واقتربت الأمة من الانهيار الذاتي.
ختامًا:
الهجرة والنفي وسحب الجنسيات ليست نهايات للدعاة والعلماء، بل بدايات لمرحلة أعمق من التأثير.
الطغاة يُخرجونهم من الوطن، لكنهم لا يستطيعون أن يُخرجوا الوطن من قلوبهم، ولا يستطيعون أن يحجبوا نور العلم.
من يطرد العلماء يطرد بركة الله عن بلاده.
ومن يحارب الوعي يفتح أبواب الأمة للصهيونية والاستبداد.
ومن يسكت على الظلم يمهّد لمستقبل بلا حرية ولا هوية.
سيبقى العلماء رموزًا للثبات،
وسيبقى الطغيان مهما بلغ هشًّا،
وسيبقى النور في النهاية أقوى من الظلمة.







