شباك نورمقالات وآراء

د. أيمن نور يكتب : صناعة الاعتياد… حين يُصبح الاستثناء قاعدةً بلا ضجيج . تعقيب على مقال د. حسام بدراوي

حين نتأمل فيما طرحه د. حسام بدراوي حول صناعة الاعتياد، نجد أنفسنا أمام لوحة تتجاوز مجرّد نقد اجتماعي أو ثقافي لتغوص في عمق الفلسفة السياسية والليبرالية. هنا لا نتحدث فقط عن تأثير الإعلام أو الفن، بل عن تلك الهندسة الخفية التي تعيد تشكيل وعي المجتمعات، وتجعل من الشاذ مألوفًا، ومن الاستثناء قاعدةً دون أن يُسمع صوت التغيير.

في عالمٍ يتسابق فيه سيل الأخبار، لا يكمن الخطر في الكذب الفج، بل في التطبيع الهادئ. إن تكرار مشاهد الفساد وتقديمها كنوع من “الذكاء”، أو تصوير الخيانة كاستجابة “طبيعية” لضغوط الحياة، لا يغيّر فقط من نظرتنا للأخلاق، بل يغيّر من تعريفنا لما هو “طبيعي” وما هو “شاذ”. هكذا، وببطءٍ متعمّد، تتبدل القيم في صمت.

إن ما يطرحه بدراوي يتجاوز حدود النقد الاجتماعي ليلامس جوهر الفلسفة الليبرالية: فكرة أن المجتمع الحر هو الذي يحتفظ بقدرته على الدهشة، وعلى الرفض، وعلى مساءلة ما يُقدَّم له كحقيقة. فالمجتمعات التي تفقد حسها النقدي وتعتاد على ما يُعرض عليها، تصبح مجتمعات قابلة للتشكل وفقًا لرغبات من يملك زمام الإعلام أو السلطة.

نستحضر هنا دروس التاريخ: كيف أن النازية في الثلاثينيات لم تبدأ بحربٍ عسكرية، بل بدأت بتطبيع الكراهية عبر تكرار رسائل إعلامية تجعل من الآخر عدوًا «منطقيًا». وفي سياقاتٍ أخرى، كيف قَبِل الناس تنازلات عن حرياتهم لأنهم اعتادوا سماع أن الأمن لا يتحقق إلا على حساب الخصوصية.

إن أخطر ما يمكن أن تمر به المجتمعات هو أن تُدجَّن على قبول ما كان يجب أن يبقى مرفوضًا، وأن يصبح الاعتياد سلاحًا يستخدمه المستبدّون لتشكيل شعوبهم. ففي السياسة، كما في الفن، يتحوّل الاستثناء إلى قاعدة حين يتكرر بما يكفي لإخماد صوت الدهشة، وحين يصبح اللا معقول معقولًا بفعل التكرار.

ما يقترحه بدراوي هو نداء للعودة إلى جوهر الليبرالية: أن نبقى قادرين على السؤال، وعلى الشك، وعلى الحفاظ على تلك المسافة الحرّة بين ما نراه وبين ما نقبله. أن ندرك أن تطبيع القبح هو معركة الوعي الأولى، وأن المجتمعات التي تنهض لا تترك لغيرها مهمة تشكيل وجدانها.

في النهاية، يبقى السؤال الذي يطرحه بدراوي هو سؤالنا جميعًا:
هل ما نراه طبيعي لأننا أدركنا حقيقته، أم لأننا فقط اعتدنا عليه؟
هذا هو جوهر الحرية: أن نبقى يقظين، وأن لا نسمح للتكرار بأن يسرق منّا قدرتنا على الرفض، وعلى الدهشة، وعلى إعادة صياغة قيمنا بأيدينا.

المزيد

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى