مقالات وآراء

د. أيمن نور يكتب: مصر بين صندوقين

جاءت الأحكام القضائية كصفعةٍ لا تحتاج إلى يد، وكجرسٍ لم يقرعه أحد، لكنه دوّى في أذن الوطن بأعلى مما ينبغي.
كشفت المحكمة الإدارية العليا ما حاولت الصناديق إخفاءه، فاهتزّت شرعيةُ مشهدٍ أُريد له أن يكون احتفالًا بالديمقراطية، فإذا به يتحوّل إلى محضر ضبط لمخالفات لا تُحصى. أُلغيت دوائر، وأُعيدت انتخابات، وتغيّرت أرقام الجولة الأولى أمام أرقام الإعادة كأننا أمام نسختين من وطن واحد، مرّة بمداد الحقيقة، ومرّة بحبر خفيّ لا يجفّ.

بدا الفارق بين الرقمين كأن أحدهما خرج من صندوق الانتخاب، والآخر خرج من صندوق سواه.
صندوق يختار الناس، وصندوق يختار لهم. صندوق يُفترض أن يحرس الإرادة، وصندوق آخر يختبر قدرتهم على الصمت. وتجلّت فضيحة “أنصاف الأصوات” التي تفجّرت في قضية #عاطف_مخلوف، الرجل الذي اكتشف نصف صوتٍ لا يُعلم إلى من ينتمي، ولا إلى أي قانونٍ يستند. نصف صوتٍ لا يمشي على قدمين، ولا يسكن في بطاقة رقم قومي، لكنه وُجد في محضر رسمي كأنه “شبح انتخابي” يتجوّل بين اللجان.

انكشفت الحكاية، لا بالتحليل ولا بالتأويل، بل بالوقائع الصلبة: أرقامٌ تغيّرت بين ليلة وضحاها، مرشّحون هُزموا ثم ظهروا منتصرين، منتصرون اختفوا من النتائج كأنهم لم يكونوا.
مُحصّلات لا تقبلها مبادئ العدالة، ولا تستوعبها قواعد المنطق. وبهذا، لم تعد المسألة طعنًا في دائرة، أو إعادةً في مقعد، بل طعنًا في معنى “الانتخاب” نفسه، وفي قدرة الدولة على أن تُجري استحقاقًا بلا ظلالٍ ولا أشباح.

سجلّ القضاء كشف أكثر مما توقّع كثيرون.
أحكام تعيد الثقة في منصة العدل، لكنها تنزعها من منصّة السياسة. أحكام تقول بوضوح إننا أمام انتخابات لا يمكن أن تُبنى عليها دولة قانون، لأن القانون نفسه كان شاهدًا على عطبٍ في صميم العملية. ومع ذلك، بقي السؤال الأكبر مُعلّقًا: إذا كانت الأخطاء بهذا الحجم، فمن المسؤول عنها؟ ومن يحاسب من؟

جاء بيان حزب الإصلاح والتنمية بقيادة أنور السادات ليضيف صدمةً فوق الصدمة.
بيان لا يصدر عادةً عن حزب مشارك في اللعبة، بل عن طرف قرّر أن يخلع “قميص الصمت” ويقول: ما جرى ليس خطأً إداريًا ولا سهوًا بريئًا، بل خللٌ بنيوي لا يليق بانتخابات تُنفق عليها الدولة مليارات، ثم تتهاوى عند لحظة العدّ والفرز. البيان مهّد لمرحلة جديدة من مواجهة الحقيقة… مواجهة لا يملك النظام رفاهية الهروب منها.

تلاقت هذه الفضيحة مع فضيحةٍ أخرى تقف عند الباب ذاته: صندوق النقد الدولي.
صندوقٌ يفرض شروطه على اقتصادٍ هشّ، بينما يفرض “الصندوق الانتخابي” شروطه على إرادةٍ هشّة. وكأن مصر عالقةٌ بين صندوقين، كلاهما يقيّدها، وكلاهما يُظهر عجز السلطة عن إدارة أي استحقاق، سياسيًا كان أو اقتصاديًا، دون أن ينكشف المستور.

كل صندوق منهما يطلب فاتورة.
صندوق النقد يطلب رفع الأسعار، تعويم العملة، وخصخصة ما تبقّى من مؤسسات الدولة. وصندوق الانتخابات يطلب صمتًا، وتبريرًا، وتزيينًا لفضائح لا يمكن تزيينها. وكل فاتورة تُدفع من جيب المواطن، ومن رصيده المعنوي، ومن شعوره بأن هذا الوطن يستحق مستقبلًا لا يُدار بالأرقام المُضلّلة، ولا بالسياسات التي تُدار خارج أبواب البرلمان.

بدا المشهد كأن مصر في امتحانين معًا: امتحان الصندوق الذي يُحصي الأصوات، وامتحان الصندوق الذي يُحصي الديون.
كأن إرادة الشعب مطاردة من جهتين؛ جهة تريد اختراق صوته، وجهة تريد ابتلاع قوته. جهة تقايض الديمقراطية، جهة تقايض السيادة.

خطورة اللحظة لا تكمن فقط في فضيحة الأرقام، بل في الزمن الذي ظهرت فيه.
لحظة اقتصاد على الحافة، ومجتمع يزداد فقرًا، وسلطة فقدت ثقة الشارع، ثم أهدرت ما تبقّى من ثقة في صناديق الانتخابات. لحظة تجعل كلّ مصري يطرح سؤالًا واحدًا: هل يُمكن إصلاح اقتصادٍ بلا إصلاح سياسة؟

لا توجد دولة تستطيع معالجة عجز موازنتها وهي عاجزة عن عدّ أصواتها.
لا توجد سلطة تستطيع بناء الثقة في أسواق المال وهي لا تستطيع بناء الثقة في محضر لجنة. الديمقراطية ليست رفاهية اقتصادية، بل شرطٌ للشفافية، شرط للمحاسبة، شرط لأن يعرف المواطن لماذا يُجَوَّع، ومن يقرر نيابة عنه، وبأي حق.

تكشف هذه الانتخابات أن الطريق إلى الإصلاح لم يعد يمر عبر التصحيح الفني، ولا عبر هندسة قانونية، بل عبر استعادة “حق الناس” في المعرفة أولًا، قبل أن يُمنحوا حق الاختيار.
حقهم في معرفة الأرقام الحقيقية: ديونهم الحقيقية، فقرهم الحقيقي, أصواتهم الحقيقية.

كلما حاولت السلطة أن تُجمّل الحقيقة، ازدادت الفضيحة قبحًا.
وكلما حاولت الدفع بالبلاد بعيدًا عن مواجهة استحقاق الإصلاح السياسي، اقتربت البلاد أكثر من حافة الانهيار الاقتصادي. كأن الحقيقة تقول لها: “إما أن تستقيم السياسة، أو يتداعى الاقتصاد.”

يخضع هذا الوطن اليوم لسؤالٍ مفتوح: هل نملك شجاعة الاعتراف بأن الأزمة ليست في المعارضة، ولا في الإعلام، ولا في المجتمع، بل في منظومة انتخابية واقتصادية لا ترى الشعب إلا كرقمٍ يُعدّ أو ضريبةٍ تُحصّل؟

تفرض اللحظة احترامًا جديدًا للقضاء الذي كشف المستور، لكنها تفرض سؤالًا أكبر وأعمق: هل يمكن إصلاح بلدٍ تكشفه أحكام القضاء أكثر مما يكشفه حكامه؟
هل يمكن لبلدٍ أن يبني مستقبله على صندوق ديون وصندوق بلا عدالة؟

يليق بهذا الشعب أن تقف السلطة أمامه مرة واحدة بلا تزييف ولا استعلاء، وأن تعترف بأن طريق الخلاص يبدأ من صندوقٍ واحد فقط: صندوق الحقيقة.
صندوقٌ لا يزوّر، ولا يخفي، ولا يساوم. صندوقٌ لا يهاب رقابة الناس، ولا يفرّ من حكم القضاء، ولا يطلب من الوطن إلا أن يقف، لا أن يخضع.

هكذا تتقاطع الحكايتان: حكاية أصوات لا تُعدّ كما يجب، وحكاية أموال لا تُدار كما يجب.
حكايتان تكشفان أن مرض السياسة هو نفسه مرض الاقتصاد، وأن الشفاء يبدأ من الاعتراف… ومن إرادة تُبنى على احترام الشعب، لا على استنزافه.

تظل مصر أكبر من صناديق فقدت وظيفتها، وأكبر من حسابات مخفية في محاضر الفرز أو دفاتر الديون.
تظل مصر قادرة على أن تنهض إذا أشرقت الحقيقة، وإذا عاد للصوت قيمته، وللصندوق رسالته، وللمستقبل حقّه.

المزيد

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى