
اليونسكو تحذر وسائل التواصل الاجتماعي تهدد الخطاب السياسي وتمزق النسيج الإجتماعي
في عصر باتت فيه التغريدة أقوى أحياناً من البيان الرسمي، والصورة المتحركة تغير وجهات النظر أكثر من المقال التحليلي، أطلقت منظمة الأمم المتحدة للتربية والعلم والثقافة “اليونسكو” تحذيراً صارخاً.
تقريرها الأخير، الذي حمل عنواناً يُلخص خطراً وجودياً على المجتمعات، كشف النقاب عن التأثير السلبي العميق لوسائل التواصل الاجتماعي على الخطاب السياسي العالمي، محولاً إياه إلى ساحة للصراع والتشويش والانقسام، بدلاً من كونه فضاء للحوار والعقلانية وصنع القرار.
صدمة الأرقام وتحليل الواقع لا يقدم التقرير مجرد انطباعات، بل يعتمد على تحليل بيانات ضخمة ودراسات حالة من عدة قارات.
تشير النتائج إلى أن الخوارزميات المصممة لزيادة التفاعل والمشاركة تفضل بشكل منهجي المحتوى العاطفي، المثير للجدل، أو حتى الكاذب، لأن هذا المحتوى يولد نقاشاً (أو شجاراً) ويزيد وقت البقاء على المنصة.
النتيجة؟
تضخيم الأصوات المتطرفة على حساب الأصوات المعتدلة، وتحويل النقاش السياسي إلى سلسلة من المعارك الثنائية (أسود/أبيض، معنا/ضدنا) بدلاً من تعقيداته الحقيقية.
وهناك الآليات الخفية كيف تتحول المنصات إلى أدوات تخريب؟
يحدد التقرير عدة آليات خطيرة منها اقتصاد الغضب بتحفيز المستخدمين عاطفياً، وخاصة عبر الغضب والخوف، لتحقيق أرباح إعلانية أعلى.
والفقاعات المعرفية والعزلة الخوارزمية بعزل المستخدمين داخل بيئات معلوماتية متجانسة تعزز معتقداتهم فقط، مما يقضي على فرص الحوار البناء مع المختلف ويقوي التعصب.
وتضخيم خطاب الكراهية والتطرف بتصعيد المحتوى الذي يحض على التمييز أو العنف بسرعة أكبر، مما يهدد السلام الاجتماعي ويساهم في تأجيج العنف الواقعي.
وكذلك هجوم المعلومات المضللة والتلاعب فقد أصبحت الحملات المنظمة لنشر الأخبار الكاذبة والتضليل أداة أساسية في الحروب الهجينة والتدخل في الانتخابات، مما يقوض الثقة في المؤسسات الديمقراطية نفسها.
وهناك تآكل الصحافة التقليدية وذلك يؤدي لاستنزاف الإعلانات وسباق المنصات على الاهتمام إلى إضعاف الصحافة المهنية، حارسة الحقائق والتحقق، لتصبح صوت “الرأي العام” المشتت.
ما نواجهه ليس مجرد تشويش عابر.
إنه تحول جذري في البيئة المعلوماتية للإنسان.
الخطاب السياسي، وهو شريان الديمقراطية، يتعرض للتسمم البطيء.
الخطر ليس فقط على الاستقرار السياسي، بل على مفهوم الحقيقة المشتركة ذاتها، والتي بدونها لا يمكن لأي مجتمع أن يعمل .
لا تكتفي اليونسكو برسم صورة قاتمة، بل تطرح توصيات عملية تتوجه بها إلى الحكومات، والمنظمات التشريعية، وشركات التقنية، والمجتمع المدني، والمستخدمين أنفسهم .
ومنها شفافية الخوارزميات بمطالبة المنصات بالكشف عن كيفية عمل خوارزميات التوصية والترتيب، والسماح بمراجعتها من جهات مستقلة.
تقوية التنظيم الذاتي والرقابي بدفع الحكومات لاعتماد قوانين تحمي سلامة الفضاء الرقمي مع الحفاظ على حرية التعبير، مثل قوانين إدارة المحتوى الضار والمعلومات المضللة.
وتعزيز التربية الإعلامية والمعلوماتية بإدخال مناهج تعلم مهارات التحقق من المعلومات، وفهم آليات الإعلام الرقمي، والنقد البناء، في الأنظمة التعليمية من سن مبكرة.
ودعم الصحافة المستقلة بتوفير بيئة مالية وقانونية تمكن وسائل الإعلام المهنية من الاستمرار في دورها الحيوي.
وكذلك تمكين المستخدم بتطوير أدوات تسمح للمستخدم بالتحكم في ما يراه (تعديل الخوارزميات الشخصية) والتعرف على مصادر التمويل خلف المحتوى السياسي.
تقرير اليونسكو هو جرس إنذار لا يمكن تجاهله.
إنه يؤكد أن المعركة من أجل الحفاظ على خطاب سياسي عقلاني ومنتج هي معركة من أجل مستقبل المجتمعات المتماسكة والديمقراطية الفاعلة.
فالمواجهة تتطلب جهداً جماعياً من المشرع الذي يصوغ القوانين، إلى المبرمج الذي يصمم الخوارزمية، إلى المعلم في الفصل، وصولاً إلى كل فرد يشارك منشوراً أو يعلق على خبر.
السؤال الآن: هل سنسمع هذا الإنذار ونعمل قبل أن يتحول الفضاء العام الرقمي إلى خراب بارد، أم أننا سنسلم مستقبل حوارنا السياسي لمعادلات رياضية مصممة لتحقيق الربح، بغض النظر عن الثمن المجتمعي؟







