مقالات وآراء

د.حسام بدراوي يكتب : معضلة الديمقراطية بين الفكرة والواقع

تعيش مصر – كما كثير من دول المنطقة – إشكالية معقّدة تتعلق بنمط الحكم الملائم لنهضتها:
هل هو حكم الفرد القوي القادر على الحسم والإنجاز؟
أم حكم الشعب عبر آليات المشاركة والرقابة والتداول؟

هذه الأسئلة تبدو حديثة، لكنها في الحقيقة ضاربة في جذور الفلسفة السياسية منذ أفلاطون وأرسطو، اللذين تخوّفا من “حكم العامة” ورأيا في الديمقراطية غير المنضبطة طريقاً يؤدي في النهاية إلى الفوضى ثم إلى الاستبداد.

في “الجمهورية”، رأى أفلاطون أن الديمقراطية تسمح للجموع – غير المهيأة معرفياً وأخلاقياً – باتخاذ القرار، فتغلب الأهواء على الحكمة، ويصعد الشعبويون، ثم ينتهي الأمر إلى ظهور طاغية يعد الناس بكل شيء ولا يلتزم بشيء.

لذلك دعا إلى حكم “النخبة العاقلة” التي تمتلك القدرة على تمييز الصالح العام.

أرسطو اقترح نظام مختلط يوازن بين القوى. كان أقل حدّة من أفلاطون، لكنه حذّر أيضاً ورأى أن أفضل نظام هو الوسط: نظام يجمع بين مشاركة الناس، وبين حكم النخبة الأكثر تعليماً وخبرة.

أي أن الديمقراطية لا تُترك دون ضوابط، بل تُحاط بمؤسسات تمنع انزلاقها إلى استبداد الأغلبية أو غوغائية الجموع والذي ينتهي باستبداد ودكتاتورية.

تشير التجربة التاريخية المصرية إلى إنجازات تحت قيادة الفرد. فالتاريخ المصري الحديث يقول إن مشروعات التحولات الكبرى كثيراً ما ارتبطت بشخصيات قوية.

محمد علي أسّس الدولة الحديثة من مركزية صارمة والمشاريع القومية الكبرى (الصناعة، الجيش، التعليم…) غالباً قادها أفراد لديهم سلطة تنفيذية واسعة.

من الخديوي إسماعيل إلى جمال عبد الناصر، والسادات، ارتبطت مشاريع التحديث المصرية بشخصيات ذات سلطة تنفيذية قوية قادرة على الحسم واتخاذ القرار حتى في الحضارات القديمة، كان الفرعون أو القائد هو المحرّك الأساسي للنهضة أو الانهيار.

هذه التجارب تُغري البعض بالاعتقاد أن مصر لا تنهض إلا تحت قيادة فرد قوي، وأن الديمقراطية تُعرقل الحسم وتفتح الباب للفوضى.

غير أن هذا النموذج أظهر غياب المشاركة الشعبية الحقيقية، وضعف الرقابة، وهشاشة المؤسسات عند تغير القيادة.

تاريخياً، ارتبطت فكرة “الزعيم” أو “القائد الملهم” بالنهضة الوطنية في الوعي الجمعي المصري والعربي، ربما بسبب الصراعات الخارجية والاحتياجات التنموية العاجلة، ما يجعل المجتمع يفضّل الحسم على التعددية.

لكن، وفق الدراسات السياسية المعاصرة، الإنجازات المرتبطة بالقيادة الفردية عادة ما تكون قصيرة المدى إذا لم تدعمها مؤسسات مستقلة.

الحقيقة أن التاريخ العالمي يرجع كل الإنجازات إلى أفراد قادوا مجتمعاتهم وجيوشهم إلا أن الدول التي حققت نهضات مستدامة— كوريا الجنوبية، سنغافورة، ألمانيا، اليابان— اعتمدت على مؤسسات قوية أكثر مما اعتمدت على فرد قوي فقط.

الإنجاز الحقيقي ليس في وجود قائد ملهم، بل في: مؤسسات تراقب وتوازن وقواعد ثابتة تمنع الانفراد بالسلطة في نظام يحاسب من يحكم مهما كان قوياً.

القائد قد يبدأ مصلحاً ثم يتحوّل إلى مستبد، فقط لأن النظام يسمح بذلك.

التحدّي المصري – هو بين “فلسفة الفرد” و“حكمة المؤسسة”، والمعضلة في مصر أن الناس يريدون: دولة قوية وإنجازات سريعة وتوفر أمن واستقرار، وفي الوقت نفسه، يريدون مشاركة وحرية وتداول سلطة.

إذًا كيف يحكم الفرد دون أن يتحوّل إلى مستبد؟

هذا هو لُبّ السؤال الذي يشغلني، وهو السؤال المركزي في أي نظرية سياسية.

الحل ليس في منع الفرد من التمكن من القوة بل في تحديد آليات تمنع تحوّل القوة إلى استبداد، مثل، الفصل بين السلطات ومدة محدودة للحكم، وحق الشعب في التغيير عبر انتخابات حقيقية، وإعلام يستطيع النقد وقضاء مستقل، وحياة سياسية تسمح بظهور بدائل.

هذه ليست شعارات، بل هي صمامات أمان تمنع الاستبداد حتى مع وجود قائد قوي بدون التشكك في نيته.

ليست القضية إذًا: ديمقراطية كاملة أو لا شيء. بل: كيف نبني نموذجاً مصرياً يجمع بين: كفاءة الإدارة، وقوة الدولة مع مشاركة الشعب، وتحصين البلد من الفوضى.

مربط الفرس هو إمكانية تداول السلطة السلمي.

هذا النموذج لا يكون بنسخ ديمقراطية الغرب، ولا بتكرار مركزية الماضي، بل بصياغة ديمقراطية تدريجية، منضبطة، قائمة على المؤسسات، وعلى رفع مستوى وعي المواطن ليكون مشاركاً لا مُتلقّياً فقط.

التجربة المصرية بعد 2011 شهدت موجات تغيير ومظاهر تحول ديمقراطي، حيث مثّلت ثورة 25 يناير 2011 نقطة تحول مركزية في التاريخ السياسي المصري الحديث، وأعادت طرح سؤال الشرعية السياسية، وحدود سلطة الفرد، ودور الشعب في صنع القرار.

غير أن المسار السياسي بعد الثورة كشف عن تعقيدات عميقة تتعلق ببنية الدولة المصرية، وعلاقتها بالمجتمع، وطبيعة القوى المنظمة القادرة على إدارة التحولات.

شهدت مصر في السنتين التاليتين ليناير 2011، انفتاحاً غير مسبوق في المجال العام: حرية التعبير وظهور أحزاب جديدة ومشاركة واسعة من الشباب ونقاش مجتمعي حول دور الدولة والدستور.

لكن غياب الخبرة السياسية وضعف البنية الحزبية خلق فراغاً في القدرة على تنظيم الإرادة الشعبية.

لقد أخفق التحول الديمقراطي في البلاد نتيجة سوء الإدارة وأحادية الفكر الديني وتهميش كل ما هو غير إخواني وسبقه وتلاه حكم النخبة العسكرية التي كانت احتياج لحظي بديلًا للفوضى ولكن لا بد من تداول السلطة لدوام الاستقرار وتراكم التنمية.

خرجت مظاهرات واسعة ضد حكم الإخوان المسلمين وتدخل الجيش لعزل الرئيس، وهو ما أعاد السلطة إلى مؤسسات الدولة المركزية.

دلالات التجربة المصرية 2011 تُظهر أن المشاركة غير المنظمة قد تتحول إلى فوضى، وأن المركزية القوية قد تحقق إنجازاً دون ضمان الاستدامة، وأن النموذج الأمثل هو توازن بين قوة الدولة وشرعية الشعب عبر مؤسسات قوية وتداول سلطة واضح.

إن تحدي الديمقراطية في مصر ليس صراعاً بين “فرد” و“شعب”، بل هو صراع بين نظام يقوم على المؤسسات ونظام يقوم على الأشخاص.

والسؤال الفلسفي القديم لأفلاطون وأرسطو يعود بقوة اليوم:

كيف نمنح الشعب دوراً في الحكم دون أن يتحول إلى غوغاء؟
وكيف نمنح القائد سلطة قوية دون أن يتحول إلى طاغية؟

والجواب واحد منذ آلاف السنين:

توازن القوى، وتداول السلطة، ووجود مؤسسات أقوى من الأفراد.

المزيد

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى