العالم العربيالمغرب العربيتونس

كلمة الدكتور المنصف المرزوقي في الذكرى الخامسة عشرة للثورة التونسية

دعا الرئيس التونسي الأسبق الدكتور المنصف المرزوقي، التونسيين إلى تحمّل مسؤوليتهم التاريخية في إنجاح ما سماه «نافذة الإطلاق الرابعة» لإنقاذ البلاد من حالة «الحضيض» التي بلغتها، مؤكدا أن الثورة التونسية، بعد خمسة عشر عاما على انطلاقها، ما تزال قادرة على استعادة مسارها شريطة توفّر جملة من الشروط السياسية والمؤسساتية والعقلية.

ثلاث نوافذ إطلاق ضيّعتها تونس خلال 70 عاما
المرزوقي استهل كلمته بالتحية قائلا: «إخواني أخواتي، أعزائي أحبّائي، أهلي، مواطنين، السلام عليكم ورحمة الله وبركاته»، مشيرا إلى أن الذكرى الخامسة عشرة للثورة تفرض سؤالا جوهريا على الجميع: «وماذا بعد؟ إلى أين نحن ذاهبون؟» معتبرا أن أحدا لا يستطيع الإجابة ما دامت «لا الطريق واضحة، ولا الأفق واضح، ولا نحن نعرف إلى أين نسير».
وأوضح أن الإجابة تقتضي العودة إلى الماضي، مستشهدا بالمثل الإفريقي: «أنت لا تعرف إلى أين أنت ذاهب إن لم تعرف من أين أنت قادم»، ومؤكدا أن فهم المستقبل يمرّ حتما عبر استيعاب الحدّ الأدنى من تاريخ البلاد خلال السبعين سنة الماضية. واعتبر أن تونس أُتيحت لها ثلاث فرص تاريخية كبرى لتضع نفسها على سكة الدول المتقدمة «كما فعلت إسبانيا والبرتغال وماليزيا»، لكنها أضاعتها جميعا.
الفرصة الأولى، وفق المرزوقي، كانت مع الاستقلال سنة 1956، حيث كان يمكن لتونس أن تصبح «دولة متقدمة تصنع السيارات وتبني اقتصادا قويا ودولة ديمقراطية»، لكن الخيار الذي اتُّخذ آنذاك – على حد تعبيره – قاد إلى «حكم فردي، وحزب واحد، وعبادة شخصية، وتخوين المعارضين واتهامهم بالعمالة والتآمر»، ما أنتج أزمات سياسية واجتماعية واقتصادية متراكمة في الستينات والسبعينات.
أما الفرصة الثانية فتمثّلت في انتخابات 1981، حين بدا أن البلاد تتجه نحو انفتاح نسبي وإمكانية بناء ديمقراطية تعددية، مع بروز شخصيات معارضة وازنة، قبل أن تُجهض التجربة عبر ما عُرف بانتخابات «الحَنّة» التي تم فيها – حسب وصفه – التلاعب بإرادة الناخبين وتحويل الأوراق الخضراء لصالح المعارضة إلى أوراق حمراء لصالح الحزب الحاكم.
ثم جاءت الحقبة الثالثة مع نظام زين العابدين بن علي، الذي أضاف – كما قال المرزوقي – «الفساد والتعذيب والانتخابات المزوّرة» إلى رصيد السلطة، قبل أن تنفجر الأوضاع وتندلع ثورة 2010–2011، فتُفتح نافذة إطلاق ثالثة كان يمكن أن تجعل تونس «مفخرة الشعوب العربية»، بدستور متقدم ودولة قانون ومؤسسات ومواجهة مبكرة للتحديات المناخية. غير أن هذه الفرصة أيضا ضاعت، بحسب تعبيره، نتيجة «أخطاء جماعية» اشترك فيها الجميع: الطبقة السياسية، الأحزاب، النقابات، الإعلام، القوى الإقليمية المتدخلة، وحتى «المواطن البسيط الذي صدّق الإشاعات والأكاذيب».

سبعة شروط لـ«نافذة الإطلاق» الرابعة
المرزوقي شدّد على أن تونس اليوم «في الحضيض اقتصاديا، ومؤسساتيا، وإعلاميا، ونفسيا، وحتّى على مستوى سمعتها الدولية»، معتبرا أن البلاد أصبحت فعليا «ولاية تابعة للنظام الجزائري» في ظل حكم قيس سعيّد، لكنه أكد في الوقت ذاته يقينه بأن «تونس ستنهض 100%، ولا يوجد شك في ذلك»، وأن التاريخ سيمنحها نافذة رابعة للانطلاق، «ربما بعد شهر أو بعد عام، حين ينتهي هذا النظام البشع المتآكل المهترئ».
ولكي لا تضيع هذه النافذة مجددا، قال المرزوقي إن المطلوب هو الالتزام بسبعة شروط يعتبرها خلاصة تجربته ومعركته السياسية وحبه لتونس، مبيّنا أن النقاش حول إمكانية تحقيقها من عدمه هو مسألة أخرى، لكن «يجب على الجميع أن يعرف ما هي هذه الشروط» حتى لا تضيع الفرصة الرابعة كما ضاعت سابقاتها:

  1. محاكمة المنقلب وإلغاء كل ما قام به
    الشرط الأول، وفق المرزوقي، هو «محاكمة المنقلب»، في إشارة إلى الرئيس قيس سعيّد، الذي اتهمه بـ«الخيانة»، لأنه – كما قال – خان العهد والدستور والديمقراطية التي جاءت به، ووزّع تُهما بالخيانة على خصومه، وفتح الباب أمام التبعية للنظام الجزائري، بل و«فتح باب التشيّع على البلاد» رغم تجانس المجتمع. وأكد أن المحاكمة ليست من باب الانتقام، وإنما «ليكون عبرة لمن يعتبر، حتى لا يجرؤ أي شخص بعد مئة سنة على إعادة نفس اللعبة: يأتي بالديمقراطية ثم ينقلب عليها».
  2. العودة إلى دستور الثورة وإلغاء البنايات غير الشرعية
    الشرط الثاني هو «عودة الدستور»، أي دستور الثورة، مع إلغاء كل البنايات والمؤسسات التي أُنشئت على أنقاضه، وفي مقدمتها «البرلمان الممسوخ وكل المنظومة التي جاءت بعد الانقلاب». وأقرّ بإمكانية إدخال تنقيحات على الدستور، لكنه شدّد على أن الإشكال الأساسي يكمن في القوانين الانتخابية والإعلامية، لا في النص الدستوري نفسه.
  3. تنقيح القانون الانتخابي والإعلامي لفرض مشهد سياسي مستقر
    الشرط الثالث يتمثل في تنقيح القانون الانتخابي والإعلامي بما يضمن برلمانا متكوّنا من قوتين أو ثلاث قوى سياسية كبرى على الأكثر، على غرار الديمقراطيات المستقرة مثل بريطانيا وألمانيا وفرنسا، بدل «الفُسيفساء» الحالية المبنية على أحزاب صغيرة مرتبطة بأشخاص، ما يجعل البرلمان مشلولا وغير قادر على إنتاج حكومات قوية. وأكد أن القانون الانتخابي يجب أن يُجبر هذه «الحوانيت السياسية» على الاندماج في كتل وبرامج واضحة.
  4. انتخاب رئيس الجمهورية من قبل البرلمان
    ويرى المرزوقي أن من أخطر الدروس المستخلصة من التجربة الحالية هو أن انتخاب رئيس الجمهورية عبر الاقتراع العام المباشر في زمن «فيسبوك وإنستغرام والشركات الممولة» جعل المنصب عرضة للتلاعب الخارجي والداخلي بالرأي العام. لذلك، اعتبر أن رئيس الجمهورية يجب أن يُنتخب من طرف البرلمان، وأن تكون مهمته الأساسية «تجميع الناس، وحماية القانون والمؤسسات والديمقراطية، وتمثيل تونس في الخارج»، وليس تقسيم المجتمع أو قيادة مغامرات فردية.
  5. حكومة مستقرة لمدة لا تقل عن خمس سنوات
    أما الشرط الخامس، فهو تشكيل حكومة سياسية–تكنوقراطية قوية، مسؤولة أمام برلمان منتخب، وتتمتع بالاستقرار لمدة لا تقل عن خمس سنوات. وانتقد المرزوقي بشدة توالي الحكومات بعد الثورة، مذكّرا بأن البلاد عرفت في فترات وجيزة ثلاث حكومات في عهده، وثلاثا في عهد الباجي قايد السبسي، وخمسة أو ستة في عهد قيس سعيّد، ما جعل المعدّل لا يتجاوز سنة إلى سنة ونصف لكل حكومة.
    وشدّد على أن «أي وزير يحتاج إلى سنة فقط ليفهم وزارته، وسنتين إلى ثلاث سنوات ليضع الإصلاحات الضرورية، وخمس سنوات على الأقل ليرى نتائجها»، معتبرا أن غياب الاستقرار الحكومي أحد أهم أسباب تعثّر الاقتصاد والإصلاحات.
  6. إلغاء الصراع المفتعل بين «الإسلاميين» و«العلمانيين»
    الشرط السادس، الذي وصفه بأنه الأهم على المستوى الفكري، هو «تغيير العقلية والنفسية»، عبر تجاوز الصراع المفتعل بين «إسلاميين» و«علمانيين» الذي استُنزفت فيه المنطقة لأكثر من قرن دون جدوى. واستحضر المرزوقي مثال تركيا، حيث حاول التيار الكمالي العلماني المتطرف طيلة قرن استئصال الجذور الإسلامية للمجتمع، وانتهى الأمر بحكم حزب ذي مرجعية إسلامية، كما استشهد بإيران التي حاول فيها الإسلاميون استئصال كل ما هو علماني، دون نجاح حقيقي، مؤكدا أن «هذه المجتمعات لها جذور محافظة مسلمة، ولها فروع علمانية، وهذه طبيعة الشجرة، والذين يحاولون اقتلع الجذور أو قطع الفروع يفشلون دائما».
    وبناء على ذلك، دعا إلى تجاوز هذا الخلاف نحو معادلة جديدة يكون فيها الخط الفاصل بين «أنصار الاستبداد وحكم الفرد والعصابات» من جهة، و«أنصار دولة القانون والمؤسسات والديمقراطية الحقيقية» من جهة أخرى، مؤكدا أن الديمقراطية وحدها القادرة على جمع الجميع في إطار احترام متبادل وتعايش.
  7. تعبئة «شعب المواطنين» لفرض التغيير
    الشرط السابع والأخير، وفق المرزوقي، هو وجود «شعب المواطنين»؛ أي الكتلة الحرجة من المواطنين الواعين، القادرين على تحريك الشارع وفرض التغيير السياسي. واعتبر أن السياسة في القرن الحادي والعشرين لم تعد حكرا على الأحزاب والحكومات، بل بات يصنعها مئة ألف أو مئتا ألف مواطن نشط ومُنظم، مشيرا إلى أن من غيّر الوضع في تونس خلال 2010–2011 لم يكن الأحزاب التقليدية بل «شعب المواطنين» الذي خرج إلى الشارع.

بين سيناريو «بن علي 2» وثورة شعبية جديدة
المرزوقي توقّف أيضا عند السيناريوهات المحتملة للخروج من الأزمة، معتبرا أن بعض القوى داخل المنظومة الحالية تستعدّ لما سماه «بن علي 2»، عبر بروز ضباط أو نخب من داخل النظام يرفضون أن يكونوا «مخلب قطّ» لقوى خارجية، ويسعون لإعادة ترتيب السلطة. ورغم اعترافه بإمكانية هذا المسار، إلا أنه شدّد على أن الفيصل سيكون في خيار هؤلاء بين العودة إلى «دستور الثورة وفتح الباب لانتخابات حرة ونزيهة»، أو الإبقاء على الدستور الحالي ومنظومة الانقلاب.
غير أن الرهان الحقيقي، في نظره، ليس على هذا السيناريو، بل على «ثورة شعب المواطنين» التي دعاها إلى الخروج إلى الشارع يوم 17 ديسمبر وما بعده «إلى أن يسقط هذا النظام، ونعود إلى بناء دولة القانون والمؤسسات واستئناف مسار الثورة وفرض الإصلاحات».

وفاء لدماء الشهداء ومسؤولية أخلاقية تجاه التاريخ
في ختام كلمته، عبّر المرزوقي عن ألمه الشخصي العميق من فكرة أن «دماء الشهداء قد تذهب هدرا»، مستحضرا مشهد أن رئيس مجلس نواب بن علي ووزير بورقيبة السابق، الباجي قايد السبسي، أصبح رئيسا للجمهورية بعد الثورة، و«حاول توريث الحكم لابنه»، معتبرا أن ذلك «إهانة لتضحيات عشرات الآلاف الذين عُذبوا وقضوا سنوات في السجون، ولشهداء الثورة وكل من سبقهم من ضحايا الاستبداد».
وأكد أن المسؤولية الأخلاقية والمعنوية اليوم تقع على عاتق «شعب المواطنين» حتى لا تذهب تضحيات الشهداء «من عهد بورقيبة وبن علي، ومن الثورة وما بعدها» سدى، بل تُتوَّج أخيرا ببناء «دولة قانون ومؤسسات، دولة حريات، دولة يعيش فيها كل التونسيين بلا بغض ولا كراهية، ويكون الجهد فيها موجها إلى التقدم والاقتصاد والتكنولوجيا والمساهمة في الحضارة البشرية».
وختم المرزوقي موجها نداءه: «شعب المواطنين، إخواني أخواتي، هذه مسؤوليتكم. تحيا تونس، ورحمة الله على الشهداء، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته».

المزيد

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى