
النتائج التي أسفرت عنها جولة الصراع المسلّح التي اندلعت في أعقاب “طوفان الأقصى” لا تبرّر تقديم أية تنازلات للكيان الصهيوني.
تستعدّ الأطراف المنخرطة في الصراع المحتدم في منطقة الشرق الأوسط لبدء تنفيذ المرحلة الثانية من “خطة ترامب لإنهاء الحرب في قطاع غزة”. وعلى الرغم من أنّ الاستحقاقات المتعلّقة بالمرحلة الأولى لم تنفّذ بالكامل، بسبب إصرار “إسرائيل” على عدم الوفاء بجميع التزاماتها، خصوصاً ما يتعلّق منها بوقف إطلاق النار والمساعدات الإنسانية، إلّا أنّ الدوافع وراء الانتقال إلى المرحلة الثانية بدأت تطغى على المحاولات الإسرائيلية المكشوفة لإفشال الخطة برمّتها.
فقد أدلى الرئيس ترامب مؤخراً بتصريحات أكد فيها أنّ الانتقال إلى المرحلة الثانية من خطته “سيبدأ قريباً”، ما أشعر نتنياهو بأنّ هامش المناورة المتاح أمامه للتنصّل من استحقاقات خطة ترامب بدأ يضيق أمامه، ومن ثمّ وجد نفسه مضطراً للإدلاء بتصريحات مماثلة تؤكّد بدورها أنّ المرحلة الثانية من خطة ترامب “توشك أن تبدأ”!!
كان الرئيس ترامب قد تشاور مع عدد من الدول العربية والإسلامية قبل الإعلان رسمياً عن خطته في 29/9/2025، وأبدت بعد الإعلان عنها ترحيبها بها وأكّدت استعدادها للتعاون مع الولايات المتحدة في تنفيذها، رغم تحفّظها على عدد من بنودها.
الآن، ومع بدء الاستعداد للدخول في تنفيذ المرحلة الثانية، والتي تشمل الانسحاب الكامل للقوات الإسرائيلية ونزع سلاح الفصائل الفلسطينية وبدء عملية الإعمار ووضع خارطة طريق تفضي إلى إقامة دولة فلسطينية مستقلة، أصبحت هذه الدول مطالبة بأن تطرح على نفسها مجموعة من الأسئلة الهامّة وأن تبحث لها عن إجابات صادقة وأمينة.
فهل هي حقاً جاهزة للدخول الآن كطرف مشارك في تنفيذ هذه المرحلة والوفاء باستحقاقاتها، خصوصاً وأنها باتت مطالبة أكثر من غيرها بأن تسهم بالجزء الأكبر من “قوة الاستقرار متعدّدة الجنسيات” وفي تمويل الإعمار، وهل لديها استراتيجية موحّدة للتعامل مع التعقيدات التي تنطوي عليها، وبالتالي بما قد يتمّ زرعه خلال هذه المرحلة من ألغام وما قد ينصب فيها من شراك؟
من المعروف أنه سبق لمجلس الأمن أن تبنّى خطة ترامب بموجب القرار رقم 2803 الصادر في 17/11/2025، لكنّ ذلك لم يغيّر الكثير من طبيعتها كخطة أميركية خالصة، ما يعني أنها لم تتحوّل بموجب القرار من مجلس الأمن إلى خطة أممية يقع عبء تنفيذها على المنظّمة الدولية، فقد اكتفى مجلس الأمن في الواقع بتفويض ترامب بالإشراف بنفسه على تنفيذ الخطة، بصفته رئيساً لمجلس السلام الذي تتركّز في يده السلطات والصلاحيات كافة.
ما يعني أنه أصبح في وضع يسمح له بالتحكّم في تشكيل جميع آلياتها ومتابعة الأداء، فسوف يتولّى بنفسه اختيار وتعيين باقي أعضاء “مجلس السلام”، وسيكون هو المسؤول عن تشكيل وتوجيه “قوة الاستقرار متعدّدة الجنسيات” (بعد التشاور مع الدول التي تقبل المساهمة فيها)، وعن تعيين “لجنة الإدارة” المعنية بالحكم المحلي والإشراف على تقديم الخدمات، والتي ستشكّل من تكنوقراط لا ينتمون إلى أيّ فصائل أو تيارات سياسية.
ولأنّ العلاقة بين الولايات المتحدة و”إسرائيل” لا تشبه العلاقات الطبيعية المعتادة بين دول العالم، ناهيك عن متانة العلاقة التي تربط بين ترامب ونتنياهو على المستوى الشخصي، يتوقّع أن يصبح نتنياهو شريكاً فاعلاً في كلّ ما له علاقة بإدارة المرحلة الانتقالية في قطاع غزة وأن تتاح له الفرصة لممارسة ما يشبه “الفيتو” على أيّ تحرّك لا يرضى عنه، وهو وضع ينبغي على الدول العربية والإسلامية أن تتنبّه له وأن تتحسّب مسبقاً لما قد يترتّب عليه من نتائج وتعقيدات.
فالمرحلة الثانية بالنسبة لنتنياهو تختزل في “نزع سلاح حماس وإخلاء القطاع من الإرهاب”. وقد أدلى بتصريحات علنية مفادها أنه سيتولّى بنفسه تحقيق هذه المهمّة بقوة السلاح إذا لم يتسنَ تحقيقها طوعاً بالوسائل السلمية، أو قسراً من خلال تدخّل القوة متعدّدة الجنسيات، ما يعكس إصراره على عدم الالتزام بوقف دائم لإطلاق النار إلّا إذا تمّ تنفيذ الخطة وفقاً للأولويات والمصالح والأهداف الإسرائيلية.
ولأنه يشترط الانتهاء من هذه المهمّة قبل انسحاب “إسرائيل” الكامل، بل وقبل الشروع في عملية الإعمار، فليس لذلك سوى معنى واحد، هو أنه سيسعى منذ الآن فصاعداً لتوظيف خطة ترامب في تحقيق ما عجز “جيش” الاحتلال عن تحقيقه في حرب الإبادة الجماعية التي يشنّها على القطاع منذ أكثر من عامين، وهو ما ينبغي على الدول العربية والإسلامية التي وافقت على المشاركة في تشكيل القوة متعدّدة الجنسيات أن تصرّ على رفضه بكلّ قوة ووضوح.
لذا، يتوقّع أن يحاول ترامب، في مرحلة ما، إبرام صفقة يقبل الطرفان بموجبها تقديم تنازلات متبادلة، كأن توافق الدول العربية والإسلامية على توسيع نطاق الاتفاقيات الإبراهيمية واتخاذ إجراءات معيّنة لمساعدة “إسرائيل” على تخفيف حدّة العزلة الدولية التي تعاني منها حالياً، في مقابل أن تظهر “إسرائيل” قدراً أكبر من المرونة عند تعاملها مع المسائل المتعلّقة بجدولة الانسحاب أو عمليات الإعمار أو أيّ مسائل أخرى من هذا القبيل، وتلك مصيدة ينبغي على الدول العربية والإسلامية تجنّب الوقوع في شركها.
في تقديري أنّ النتائج التي أسفرت عنها جولة الصراع المسلّح التي اندلعت في أعقاب “طوفان الأقصى” لا تبرّر تقديم أية تنازلات للكيان الصهيوني.
فالسجل التاريخي لمواقفه التفاوضيّة يقطع بأنّ إقدام الدول العربية والإسلامية على تقديم التنازلات يغريه بطلب المزيد. فهو ينطلق دائماً من قناعة مفادها أنّ الإقدام على خطوة كهذه لا يعكس حرصاً على تحقيق السلام أو ينمّ عن رغبة في حقن الدماء وحماية الموارد، وإنما ينبع من شعور عميق بالضعف والجبن وعدم الثقة بالنفس، ما يدفعه للتمادي في غيّه.
ولأنّ نظرته إلى العرب والمسلمين تتسم دائماً بالاستعلاء والفوقيّة، وتنطلق من إحساس عنصري يدفعه للاعتقاد بأنّ الدول العربية والإسلامية “تخاف ولا تختشي”، ومن ثمّ فكلما تعرّضت لمزيد من الضغوط قدّمت تنازلات أكبر. ويكفي أن نتذكّر هنا كيف أساء هذا الكيان المتغطرس الظنّ بزيارة السادات للقدس عام 77، وسعى لاستغلالها في دفع مصر نحو معاهدة سلام منفردة تساعد على غرس بذور الفتنة في التربة العربية، بدلاً من التعامل معها كخطوة جسورة تتيح فرصة يتعيّن انتهازها لتحقيق سلام شامل مع العالم العربي ككلّ.
على صعيد آخر يمكن القول إنّ القراءة العنصرية لدلالات “طوفان الأقصى” دفعت بالكيان مرة أخرى لارتكاب أخطاء قاتلة، لكنها كلّفته الكثير هذه المرّة.
فبدلاً من أن يرى في هذا “الطوفان” صرخة مدوّية أطلقها شعب احتلّت أرضه وعانى الكثير من الممارسات الوحشية لاحتلال استيطاني استمرّ لما يقرب من قرن كامل من الزمان، إذا به يصرّ على وصف ما جرى بعملية إرهابية تشبه الهجوم الذي شنّه تنظيم القاعدة على مدينتي نيويورك وواشنظن في 11/9/2001، كي يبرّر ردّ فعله الوحشي على الشعب الفلسطيني، والذي أخذ شكل حرب إبادة جماعية وتطهير عرقي وتجويع، كاشفاً بهذا السلوك عن الطبيعة العنصرية والوحشية الكامنة في بنية المشروع الصهيوني.
لو كان بمقدور الكيان الصهيوني نزع سلاح حماس وتحطيم البنية العسكرية لفصائل المقاومة الفلسطينية، لما تردّد في القيام بهذه المهمة في أيّ لحظة يختارها على مدى عامين استغرقتهما حربه الانتقامية على القطاع، ولما احتاج بالتالي إلى “قوة استقرار متعدّدة الجنسيات”، تضمّنتها خطة ترامب، للقيام بهذه المهمّة نيابة عنه.
لذا فليس من المنطقي أبداً أن يطالب الكيان بأن تحقّق له خطة ترامب ما عجزت آلة حربه الجهنمية عن تحقيقه طوال عامين، أو أن يطالب ترامب الدول العربية والإسلامية بتوسيع نطاق التطبيع مع كيان قتل وجرح ودفن تحت الأنقاض ما يقرب من ربع مليون شخص، أي ما يعادل نحو 10% من إجمالي سكان قطاع غزة.
وعلى المجتمع الدولي ألّا ينسى أبداً أنه مسؤول عن إنزال العقاب بهذا الكيان المجرم، وإلقاء القبض على كلّ من تسبّب في ارتكاب كلّ هذه الجرائم ومحاكمته أمام المحاكم الدولية. فالانتقال نحو تنفيذ المرحلة الثانية من خطة ترامب ينبغي ألّا ينسي المجتمع الدولي ما ارتكبه الكيان الصهيوني من جرائم وعليه أن يصرّ على عدم إفلاته من العقاب.
ليس من المستبعد نظرياً أن يفضي تنفيذ المرحلة الثانية من خطة ترامب إلى تمهيد الطريق نحو سلام شامل في المنطقة إذا تمّ تنفيذها على نحو يؤدّي إلى:
- 1-وقف تامّ ودائم لإطلاق النار.
- 2-تشكيل قوات متعددة الجنسيات تتولى: أ-الإشراف على انسحاب القوات الإسرائيلية من جميع أراضي القطاع، ب-مراقبة الحدود ووقف إطلاق النار، ج-تدريب القوات الفلسطينية التي سيعهد لها بتحقيق الأمن في القطاع تدريجياً.
- 3-تشكيل “حكومة تكنوقراط” تعمل بكفاءة لضمان وصول الخدمات الأساسية الى جميع المواطنين.
- 4-البدء في عملية إعمار شامل تحت إشراف “مجلس السلام”.
- 5-تهيئة الأجواء لتنظيم انتخابات حرّة ونزيهة في كلّ من الضفة والقطاع، تشرف عليها الأمم المتحدة وتساعد على إعادة بناء السلطة الوطنية الفلسطينية على أسس شرعيّة وتمثيليّة سليمة تمكّنها من قيادة دولة فلسطينية مستقلة في أسرع وقت ممكن.
أمام الدول العربية والإسلامية التي تستعدّ للمشاركة في تنفيذ المرحلة الثانية من خطة ترامب فرصة لوقف الحرب واستعادة الهدوء في المنطقة، شريطة إدراكها لحقيقة مفادها أنّ تقديم تنازلات مجانية لطرف يبحث عن الهيمنة ولا يؤمن بالتعايش السلمي بين الشعوب لا يساعد على صنع السلام بقدر ما يسيل لعاب الطرف الذي اعتاد الإجرام ويساعد على فتح شهيّته للعدوان.







