
مع اقتراب ذكرى ثورة يناير، يعود السؤال الملحّ الذي يبدو بسيطًا في ظاهره، لكنه أعقد بكثير حين نغوص في جذوره: لماذا لم تستطع الثورة حماية نفسها؟
كثير منا كان يظن في الأيام الأولى أن الحشود هي القوة وأن الميدان هو الحصن. كنت أنظر إلى ملايين الناس وأقول لنفسي: “كيف يمكن لأي سلطة أن تهزم هذا الطوفان؟ كيف يمكن للخوف أن يعود بعد أن مات؟”. لكن السنوات أثبتت أن الثورة، مهما عظمت، ليست قوية بقدر ما تبدو، وأن الحشود، مهما بلغ عددها، لا تحمي ثورة بلا مشروع، ولا تحمي مشروعًا بلا قيادة.
أول ما أعدّ نفسي لتذكره هو أننا ظننا أن سقوط مبارك هو النهاية. عشنا لحظة التنحي كأنها إعلان تحرير، كأن الدولة القديمة انهارت، كأن السقف الذي سقط أسقط الجدران معه. لكن الحقيقة أن الجدران بقيت كما هي: الأجهزة، القضاء، الإعلام، وكل طبقات الدولة العميقة. الثورة أسقطت الرأس، لكنها لم تمسّ الجسد. وحين يتصرف الثوار كأن النصر قد حُسم، بينما الخصم يعيد ترتيب صفوفه، فإن الهزيمة تصبح مسألة وقت.
المشكلة الثانية كانت أن الثورة دخلت معركة لا تعرف قواعدها. نعرف الشوارع جيدًا… لكننا لم نكن نعرف “الدولة”: كيف يفكر الجيش؟ كيف تعمل المخابرات؟ كيف تُدار المعارك داخل القضاء؟ كيف يتحرك الإعلام حين يصبح سلاحًا؟
كنا نحارب في الضوء… بينما خصومنا يحاربون في الظلام. كنا نهتف في الميدان… بينما هم يوقّعون القرارات في غرف مغلقة. كنا نصنع حالة شعبية… بينما كانوا يصنعون سياسة.
ولم تستطع الثورة حماية نفسها لأنها وثقت أكثر مما ينبغي. وثقت في المجلس العسكري، وثقت في الإعلام، وثقت في النخب التي كانت على اتصال دائم بالدولة العميقة، وثقت فيمن لا يريدون لها أن تنتصر أصلاً. تصرفنا بروح ثورية نبيلة، بينما الطرف الآخر كان يتحرك بعقلية دولة عتيقة لا تعترف إلا بالقوة والمصالح. كنا نرى العالم أخلاقيًا، بينما كان الآخرون يرونه حسابيًا.
وأخطر ما حدث للثورة أنها خافت من نفسها. قيل لها: لا تقتربي من الجيش… لا تقتربي من القضاء… لا تقتربي من الأجهزة… هذه “خطوط حمراء”. وصدّقت الثورة هذا الكلام. فتركت أهم ساحة في المعركة خارج معركتها: ساحة الدولة نفسها. كانت الثورة تسير حول مركز السلطة… دون أن تمسّ مركزها الحقيقي.
ثم جاءت الخديعة الكبرى: الانسحاب الظاهري للدولة القديمة. تركت الثورة تنتصر في الميادين، وسمحت للحشود أن تفرح، لكنها لم تكن منسحبة. كانت تعيد بناء شبكاتها، تنظّف أدواتها، تفتح قنواتها، تنتظر اللحظة المناسبة. كان الثوار يحتفلون في الشوارع… بينما كانت الدولة العميقة تحتفل في الكواليس.
ولم تستطع الثورة حماية نفسها لأنها لم تعرف نفسها. لم نحدد مشروعًا واضحًا للثورة: هل هي ثورة لإسقاط الرأس فقط؟ أم ثورة تغيير جذري؟ هل هدفها العدالة الاجتماعية؟ أم الديمقراطية؟ أم إعادة بناء الدولة؟
هذا الغموض جعل الثورة بلا بوصلة. وحين يغيب المشروع… يغيب الدفاع عنه.
ثم جاءت الضربة التي لم ننتبه لها إلا متأخرًا: الانقسام الداخلي. لم تنهزم الثورة بسبب خصومها فقط، بل بسبب صراعاتها الداخلية: الإسلاميون مقابل الليبراليين. الميدان مقابل البرلمان. الراديكاليون مقابل الإصلاحيين. من يريد الاستمرار في الميدان ومن يريد بناء مؤسسات.
انشغل الثوار ببعضهم أكثر مما انشغلوا بخصمهم. ولم يفهم كثيرون أن الانقسام هو أقدم سلاح لقتل الثورات.
والحقيقة المؤلمة أن الثورة المصرية كانت بلا خبرة. شعب محكوم ستين عامًا لا يُنتظر منه أن يبني دولة ديمقراطية في عام واحد. الثورات تحتاج زمنًا طويلًا للتعلم، للخطأ، للنضج، للتماسك. لكن الثورة المصرية لم تُمنح الوقت. أسرعت، ركضت، فرحت، ثم وقعت.
وكلما سألت نفسي: لو كان للثورة مجلس قيادة حقيقي، وإعلام مستقل، واستخبارات وطنية نظيفة، ومشروع واضح… هل كانت ستحمي نفسها؟ أجد الإجابة تخرج بلا تردد: نعم، كانت ستصمد أكثر، وربما كانت ستعبر النقطة التي انهارت فيها.
ومع ذلك، أعترف بيني وبين نفسي أن قوة الثورة كانت في صدقها… لكن صدقها كان نقطة ضعفها. كانت الثورة نقية أكثر مما تحتمل السياسة. صادقة أكثر مما يحتمل العالم. شجاعة أكثر مما يحتمل الزمن.
سقطت.. لكنها لم تمت. انطفأت.. لكنها لم تنتهِ. خسرت الجولة… لكنها ربحت الوعي. فها نحن اليوم، بعد كل هذا المسار القاسي، نملك ما لم نملكه من قبل:ووعيٌ بالصراع، خبرةٌ بالدولة، فهمٌ للإعلام، إدراكٌ للتحالفات، ذاكرةٌ لا تُمحى، وتاريخٌ لا ينتسى.
وعندما أعود للسؤال الأول… لماذا لم تستطع الثورة حماية نفسها؟ أسمع داخلي جوابًا واحدًا: لأنها لم تولد لتنتصر في المرة الأولى… بل لتعلّمنا كيف ننتصر في المرة القادمة.







