مقالات وآراء

د . تامر المغازي يكتب : القاهرة.. مدينة الألف مئذنة التي لم تفقد روحها رغم تبدل الأسماء

في قلب مصر النابض، تقبع مدينة شهدت حضارات متعاقبة، وتنفس في أزقتها الفراعنة والرومان والمسلمون.

مدينة حملت أسماءً عديدة، كل منها يحمل في طياته حكاية عصر وروح زمن.

إنها القاهرة، التي لم تُخلق باسمها الحالي، بل مرت برحلة اسمية تعكس ثراء تاريخها وتعدد طبقات هويتها.

الجذور الفرعونية من “إيونو” إلى “منف” قبل آلاف السنين، وقبل أن يُطلق عليها اسم “القاهرة”، كانت الأرض التي تقوم عليها اليوم جزءاً من مملكة مصرية عظيمة.

في العصر الفرعوني، اشتهرت المنطقة بـ “إيونو” (عين الشمس)، إحدى أقدم العواصم المصرية ومركز عبادة الشمس.

كما شُيدت بالقرب منها مدينة “منف”، العاصمة القديمة لمصر الموحدة، والتي ازدهرت لآلاف السنين وذكرت في نصوص العهد القديم.

هذه الأسماء تذكرنا بأن جذور المدينة ضاربة في عمق الحضارة الإنسانية.

مع الفتح الإسلامي لمصر عام 641 ميلادية على يد عمرو بن العاص، تأسست أول عاصمة إسلامية على هذه الأرض، وأطلق عليها اسم “الفسطاط”، والتي تعني “الخيمة” في العربية.

تقول الروايات التاريخية أن اختيار الموقع كان بسبب حمامة وضعت بيضها في خيمة القائد عمرو، فاعتبر ذلك فألاً حسناً بالاستقرار.

من هنا، انطلقت شرارة المدينة العربية الإسلامية، لتصبح الفسطاط مركزاً إدارياً وتجارياً مهماً، وتضم أول مسجد في أفريقيا وهو جامع عمرو بن العاص.

مع تغير الأزمنة، أسس العباسيون مدينة جديدة شمال الفسطاط سنة 750م سموها “العسكر”، لتكون مقراً للحكم والجند.

ثم جاء أحمد بن طولون وأسس مدينته “القطائع” عام 868م، التي اشتهرت بميدانها الكبير ومسجدها الشهير الذي ما زال شاهداً على عمارتها الفريدة.

كانت كل مدينة جديدة تُبنى جنباً إلى جنب مع سابقتها، كحلقات متصلة في سلسلة واحدة.

الميلاد الرسمي “القاهرة” المعزية

الاسم الأكثر شهرة والأبقى في الذاكرة جاء مع الفاطميين.

ففي 17 شعبان 358 هـ (6 يوليو 969م)، وضع الخليفة المعز لدين الله الفاطمي حجر الأساس لعاصمة جديدة، بناها القائد جوهر الصقلي.

أطلق عليها في البداية اسم “المُنتصرة”، ثم “القاهرة”.

واختلف المؤرخون في سبب التسمية؛ فالبعض يرى أنها سُميت بـ “القاهرة” تفاؤلاً بأنها ستقهر الدنيا وتنتصر على الأعداء، بينما يربطها آخرون بالكوكب الفلكي “القاهر” (المريخ) الذي كان في الأفق لحظة التأسيس.

ومنذ ذلك الحين، التصق اسم “القاهرة” بالمدينة، ليكون الاسم الذي عرفها به العالم.

عواصم موازية من “القرافة” إلى “مصر العتيقة” لم يتوقف التاريخ عند هذا الحد.

ففي العصر المملوكي، توسعت المدينة وازدهرت، وأضيفت أسماء أحيائها المعروفة كالقرافة والحسينية.

وفي فترات لاحقة، أطلق الأوروبيون على المنطقة القديمة اسم “مصر العتيقة” أو “القاهرة الفاطمية”، بينما شُيدت “القاهرة الخديوية” في القرن التاسع عشرة على الطراز الأوروبي.

ولكن يبقى الاسم الرسمي الجامع هو “القاهرة”، الذي صمد رغم كل التحولات.

اسم واحد.. وألف حكاية

رحلة أسماء القاهرة هي رحلة عبر الزمن، تسجل تحولات سياسية وثقافية ودينية كبرى.

من إيونو الفرعونية إلى الفسطاط الإسلامية، وصولاً إلى القاهرة الفاطمية التي نعرفها اليوم.

كل اسم كان بوابة لعصر، وكل عصر أضاف لبنة في صرح هذه المدينة العظيمة.

القاهرة اليوم ليست مجرد اسم على خريطة، بل هي خلاصة كل هذه الأسماء والتاريخ.

هي المدينة التي احتضنت الجميع، وحافظت على هويتها المتعددة تحت مظلة اسم واحد، ليظل رمزاً للخلود والصمود، يحمل في حروفه ذاكرة أمة وروح حضارة.

تظل القاهرة واحدة من أقدم العواصم المستمرة في العالم كمركز للحياة والحكم، مما يجعل تتبع أسمائها تتبعاً لتاريخ الحضارة الإنسانية نفسها في هذه البقعة من العالم.

ولطالما ارتبط اسم “المحروسة” بمصر .

المزيد

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى